كانت بداية سماعي باسم جون أسبوسيتو في إحدى المؤتمرات التي عقدتها الجمعية الإسلامية لأمريكا الشمالية (ISNA) في أوائل الثمانينيات بولاية إنديانا الأمريكية، حيث كان أحد ضيوف المؤتمر، وقد تحدث عن الظروف التي جمعته في جامعة تمبل بمدينة فيلادلفيا بالبروفيسور الفلسطيني إسماعيل الفاروقي المختص بعلم الأديان. كان البروفيسور الفاروقي أستاذاً لجون أسبوسيتو بالجامعة، وهو الذي أثَّر به بشكل كبير، وجذبه للاهتمام بدراسة الإسلام والتاريخ الإسلامي، ليصبح فيما بعد من أكثر الشخصيات الأكاديمية في أمريكا التي تتحدث لوسائل الإعلام الغربية عن الظاهرة الإسلامية، وخاصة عن إيران الخميني، وعن أزمة الرهائن الأمريكيين في طهران، ووضع كتاباً عن الثورة الإسلامية والتمكين للإسلام السياسي، كأول تجربة تتحدى الهيمنة الغربية، وتنجح بتحركات شعبية واسعة بإسقاط حكم الشاه رضا بهلوي، الذي كان أحد أذرع أمريكا الضاربة في منطقة الشرق الأوسط.
ومع دخول الإسلاميين على خط العمل السياسي في أواخر السبعينيات، صار أسبوسيتو الضيف المفضل لوسائل الإعلام الأمريكية والغربية بشكل عام. كتب أسبوسيتو الكثير عن الإسلاميين في الجزائر، وعن جبهة الإنقاذ الإسلامية (FIS)، وعن الإسلاميين في السودان، حيث كان صديقاً للدكتور حسن الترابي (رحمه الله)، وقد اسهمت مشاركته في الكثير من المؤتمرات الإسلامية على توطيد علاقاته بقيادات العمل الإسلامي في الشرق والغرب.
كان أسبوسيتو يتحدث بلغة إيجابية عن الإسلاميين والظاهرة الإسلامية، جعلتنا نظن أنه إنسان مُسلم يُخفي إسلامه، حيث كان يُطالب الإدارة الأمريكية والغرب باحترام نتائج الانتخابات في الدول العربية، وضرورة إعطاء الإسلاميين فرصتهم في الحكم إذا جاءت بهم صناديق الاقتراع، وعدم الانصات لمن يتعمدون التحريض وتشويه الحقائق، بادِّعاء أنَّ الإسلاميين إذا وصلوا لسدِّة الحكم فلن يتركوها، وكانت المقولة الشهيرة التي أطلقتها الصحفية الأمريكية "جوديث ميلر"؛ وهي يهودية صهيونية، وكانت مقولتها الشهيرة: (One Man, One Vote, One Time)؛ أي إذا وصل الإسلاميون لكُرسيّ الحكم فستكون نهاية اللعبة!! وقد شكَّلت هذه المقولة موقفاً نمطياً منحازاً إلى الأنظمة الشمولية المستبدة.
كان أسبوسيتو من أهم الشخصيات الأمريكية الأكاديمية المختصة بشئون الحركة الإسلامية، وكان يُعطي محاضرات في مركز إعداد الدبلوماسيين التابع لوزارة الخارجية، كما كان يقدم استشارات وأوراق "تقدير موقف" تجاه قضايا الإسلاميين والعالم الإسلامي، وكانت نصائحه تلقى قبولاً واستحساناً لدى الإدارات الأمريكية المختلفة، وأيضاً في لجنة الشئون الخارجية بالكونجرس ووزارة الدفاع.
كنت أحرص دائماً على اصطحاب الشخصيات الإسلامية القيادية القادمة من البلاد العربية للقاء به، حيث كانت تلك اللقاءات تزيد من حصيلته المعرفية أكثر فأكثر بالإسلاميين، وتمنحه الفرصة للحوار معهم والتعرّف عليهم، ومدّ جسور الصداقة عبر القيام بزيارات لبلدانهم.
كان أسبوسيتو بمثابة أحد المرافئ التي نلجأ إليها كلما تطلب الأمر رأياً أو مشورة تتعلق بالأسلوب الأفضل لحماية جاليتنا المسلمة في الغرب، والتي تتعرض لحملات من التشهير والتشويه، ومحاولات البعض لتعميق نظرة العداء والكراهية تجاها.
كان يعمل إلى جانب أسبوسيتو في مركز التفاهم الإسلامي المسيحي بجامعة جورج تاون عددٌ من الأكاديميين والباحثين المسلمين والمسيحيين، وهم على نفس خطى أسبوسيتو، وكانت تربطهم بمؤسسات الجالية المسلمة علاقات ودٍّ واحترام وتشاور، وخاصة بالمعهد العالمي للفكر الإسلامي (IIIT)، الذي كان بروفيسور إسماعيل الفاروقي (رحمه الله) رئيساً فيه لدائرة "إسلامية المعرفة".
لقد قام أسبوسيتو بنشر أكثر من 30 كتاباً عن الحركة الإسلامية، كأن أشهرها: التهديد الإسلامي: حقيقة أم خيال؟!، والإسلام: الطريق المستقيم، ومستقبل الإسلام، والسودان: الدولة والمجتمع في أزمة...الخ، كما أشرف على إنجاز (موسوعة أكسفورد عن العالم الإسلامي)، والذي شارك في إعدادها شخصيات إسلامية أكاديمية من دول مختلفة، وتعتبر هذه الموسوعة هي من أفضل ما كُتب عن الإسلام والإسلاميين في وقتنا الحاضر.
من الجدير ذكره، أن أحداث 11/9/ 2001 قد تسببت في تراجع العمل الإسلامي في أمريكا، وأضعفت مكانة الكثير من الشخصيات الغربية التي كانت تدافع عن الإسلام والإسلاميين، وكلّ ذلك لحساب تيار المحافظين الجدد (neo-Cons)، والذين تُحرِّك العديد منهم أجندة صهيونية، هدفها إشاعة الخوف من المسلمين، والتحذير من تنامي وجودهم في أمريكا.
ومع تلك الأحداث المأساوية في 11/9، التي نعتها الغرب بالإرهابية، بدا أن علينا كجالية مسلمة نعيش في الغرب أن نبحث عن سبيل لحماية أنفسنا والحفاظ على مكتسباتنا هناك. وفي سياق المراجعة، تبدى لنا أنَّ علينا أن نبدأ مجدداً من الصفر، إذ خسرنا كلَّ ما بنيناه في نصف قرنٍ.. فالتشريعات التي سنَّها الكونجرس تحت ما يسمى بقانون مكافحة الإرهاب (Patriot Act)، أصبحت تقيِّد حراكنا، ولا تمنحنا فضاءات مريحة من العمل على الساحة الأمريكية، الأمر الذي أدى لإغلاق الكثير من المؤسسات الدعوية والخيرية وملاحقة العاملين فيها، وقد قمت بتدوين كل ما تعرضت له جاليتنا المسلمة من مضايقات وتمييز عنصري وملاحقات تعسفية في كتابين باللغة الإنجليزية، الأول بعنوان: (مسلمو أمريكا: جاليةٌ تحت الحصار)، والآخر (بصمات الصهيونية: عالم ما بعد أحداث 11/9).
حاول أسبوسيتو وآخرون من الخبراء بالشأن الإسلامي في الغرب تقديم النصيحة لنا -آنذاك- في كيفية التعامل مع هذه الحملات التي تستهدف جاليتنا المسلمة، وكذلك النشطاء من ذوي الخلفية الفلسطينية؛ باعتبار أنَّ الموجة هي حالة من ردود الفعل والغضب الآني، وأنَّ علينا الصبر والتحلي بأعلى درجات ضبط النفس؛ لأن هذه الموجة هي في أوجِّ ذروتها بعد تلك الأحداث المأساوية، التي وجهت فيها اتهامات الإرهاب لجهات إسلامية، ولكنَّ هذه الموجة من التحريض لا شكَّ ستخبو بعد حين، وقد سبق في التاريخ الأمريكي موجات عداء مشابهة تجاه اليابانيين المقيمين في أمريكا خلال الحرب العالمية الثانية، وأيضا ضد الشيوعيين إبان عهد جون مكارثي في الخمسينيات.
غادرت أمريكا في منتصف عام 2004 متوجهاً إلى مصر ومنها إلى الجزائر، التي طاب لي فيها المقام قبل العودة النهائية إلى ربوع الوطن.
للأسف؛ بدا أنَّ تلك الحملات لن تتوقف، بسبب استفحال أشكال الإرهاب والمواجهة بين المسلمين والغرب، حيث أصبحت أمريكا تحتل كلاً من أفغانستان والعراق، مما أدى إلى تعاظم حدّة الصراع، وارتفاع أصوات من يحرضون على الإسلام والتخويف منه (الإسلاموفوبيا) بشكل سافر في الكثير من المدن والجامعات والمؤسسات، وصارت أمريكا بلداً طارداً وليس ملاذاً آمناً للمسلمين فيها.
ومنذ غادرت أمريكا، لم التق أسبوسيتو ولم أسمع منه لقرابة الخمس سنوات.. وذات يوم، اتصل بي صديق عزيز يعمل في دولة الإمارات، ليخبرني أنه سيرى أسبوسيتو في الغد وسيتناول معه طعام الغداء. طلبت من صديقي أن اتحدث إليه عندما يلتقيان، وهذا ما حدث، حيث تبادلنا التحايا وشيئاً من ذكريات الماضي.
وتشاء الأقدار أن نلتقي -وجهاً لوجه- مرة أخرى، عبر تجمع إسلامي- غربي في تركيا بعد الربيع العربي، ثم تكررت اللقاءات في مؤتمرات انعقدت في النرويج وتونس، وكنت وأسبوسيتو من بين المدعوين لها. كان هذا الرجل واحداً من أفضل من عرفت من المفكرين الغربيين المختصين بشئون الإسلام والحركة الإسلامية، إذ ظلَّ وفيَّاً لقناعاته بأنَّ من حق الإسلاميين الحكم إذا جاءوا عبر صناديق الاقتراع، وأنَّ الغرب -للأسف- قد اتخذ تجاههم مواقف ظالمة، ولم يكن أخلاقياً أو منصفاً في أحكامه، وهذا ما دفع البعض من هؤلاء الإسلاميين للجنوح نحو التطرف والإرهاب.
كان أسبوسيتو- وما زال- صوتاً مدافعاً عن قضايا الإسلام والمسلمين عبر كتاباته ومحاضراته، وظهوره المتكرر على وسائل الإعلام الغربية.
لن أنسى لهذا الرجل موقفه معنا عندما منحنا الموافقة على إقامة مؤتمر مشترك معه في جامعة جورج تاون، حيث دعونا الكثير من قيادات العمل الإسلامي ورموزه للحديث عن الظاهرة الإسلامية، والتصدي للحملات التي تستهدف تشويه صورة الإسلام والمؤسسات الإسلامية في أمريكا، وقد أعطى أسبوسيتو بمشاركته بعداً إعلامياً كبيراً للمؤتمر الذي حضره الكثير من الإعلاميين والشخصيات السياسية الأمريكية الوازنة، وكان المؤتمر بعنوان "أمريكا والإسلام والألفية الثالثة".
اليوم، ترجل الفارس عن صهوة جواده بعدما قرر التقاعد، وقد ناهز عمره التسعون عاماً، أمضى نصفها في الكتابة عن الظاهرة الإسلامية ودراستها والحديث عنها، وعن حق الإسلاميين في مشهد الحكم والسياسة، أسوة بالآخرين من التيارات والأحزاب العلمانية في الدول العربية. اليوم، يبتعد أسبوسيتو عن الحياة العامة والتدريس الجامعي والمشاركة في المؤتمرات، ولكنَّ كتبه التي يقصدها كلّ المختصين بالظاهرة الإسلامية، ستظل شاهداً بأنَّ هناك في الغرب من أصحاب الضمائر الحيَّة من أنصف الإسلام ونافح بقوة ومصداقية عن الإسلاميين.