يسود أعتقاد لا اتفق معه، عند بعض المتابعين للشأن السياسي والعلاقات الدولية بوجود خلافات عميقة وجوهرية بين الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الأستعماري قد تؤدي الى الاستغناء عن الدور الوظيفي لهذه الدولة التي استحدثتها الولايات المتحدة نفسها وهبوط في مستوى العلاقات الاستراتيجية بينهم .
أن طبيعة علاقة الولايات المتحدة باسرائيل تحددها أصول نشأة الدولتين من التطهير العرقي والتمييز العنصري، كما ومحددات دينية عقائدية وسياسية وأمنية عسكرية وطبيعة مجتمعات من خليط عرقي، محددات لا يمكن تجاوزها في ظل النظام الدولي الراهن ومحاولات استدامة الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة .
ولذلك هنالك في المكانين اليوم اتجاهات تُنبئ بعدم استدامة الاستقرار نابعة من حقيقة تاريخ تلك المحددات والوقائع المتشابهة، ومنها وهم ابتداع القوميات لفئات دينية وتجاوز تناقضات الخليط العرقي للسكان الذين اتوا مهاجرين للاستيطان في تلك الأوطان التي امتلكت حضارة وتاريخ .
اكذوبتان تم ابتداعهما على حساب حقوق قوميات اخرى لأصحاب البلاد الأصليين، وعلى حساب حضارة وتاريخ من خلال كل المحاولات التي ما زالت جارية لكي وعي الشعوب الأصلية .
يقول المفكر التقدمي ناعوم تشومسكي في هذا الخصوص، انه بداية يجب بألا نغفل أن الدول الثلاث الكبرى الأشد دعماً لدولة الاحتلال الإسرائيلي هي الولايات المتحدة الاميركية وكندا واستراليا. وهي كيانات قامت على حركات الاستيطان الاستعمارية، التي أبادت السكان الأصليين .
واليوم ان ما يفعله الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي في فلسطين صورة مشابهة لما جرى في تلك البلدان، سياسات تم بناؤها بتخطيط دقيق منذ بدايات جريمة الاحلال السكاني والتطهير العرقي لشعبنا في وطنه .
ان دوافع دعم الولايات المتحدة غير المشروط لإسرائيل، قائم على ما ذكرته بالبداية من الأسباب الدينية والثقافية المتمثلة في فكر ومنهج الصهيونية المسيحية. لقد نشأت الأصولية المسيحية قبل الأصولية اليهودية، حيث أن الأصوليين المسيحيين يقرؤون في الكتاب المقدس عن ضرورة عودة اليهود إلى فلسطين وفق رؤيتهم .
ومن هؤلاء الاصوليين هم "الإنجيليون الذين يتمتعون بنفوذ كبير في دوائر صنع القرار بالولايات المتحدة بل وفي دول أوروبية باتوا ينتشرون فيها، وهم يؤمنون بحَرفية العهدين القديم والجديد معاً ، حيث وفق اعتقادهم، "فإن قيام دولة إسرائيل يُعدّ تمهيداً لعودة المسيح المخلّص، الذي يواجه الوثنيين، من المسلمين وغيرهم من المسيحين العرب وتحديدا بالمشرق، وذلك خلال معركة كبرى تسمّى "هرمجدون"، أي سهل هرمجدون في فلسطين، وأن السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين هو تأخير لوعد الله بحسب زعم هؤلاء .
من جانب اخر هنالك دور اللوبي الإسرائيلي في توجيه السياسة الخارجية الأميركية الداعمة لدولة الاحتلال الاستعماري دون حدود، بل وتمارس دورها كشريك منذ ما قبل اعترافها بدولة اسرائيل في منع شعبنا الفلسطيني من ممارسة حقه بتقرير المصير وحصر هذا الحق بما يسمى بالشعب اليهودي .
وهنا لا بد من الاشارة إلى مقاربة تشومسكي بين نظام جنوب إفريقيا العنصري ونظام الاستعمار الإسرائيلي، فيقول "إن كيان الاستعمار الإسرائيلي قد تحوّل إلى اليمين المتطرف بل والفاشي، وفي الحقيقة إن ما حدث في إسرائيل يشبه إلى حد كبير ما حدث في جنوب إفريقيا" . ويضيف تشومسكي ، "لقد مارس المجتمع الدولي في حالة جنوب إفريقيا في نهاية المطاف ضغطاً شديداً لإنهاء التمييز العنصري ضمن الدولة الواحدة، أما في حالة فلسطين فإن المجتمع الدولي يبدو مستعداً لدعم "قيام الدولة" من دون التصدي جدياً للأبارتهايد الإسرائيلي.
إن شعار "المشاركة البنّاءة" وحلّ الدولتين هما خرافتان تصرفان الانتباه عن القضية الأساسية وتسمحان باستمرار الاستعمار والتطهير العرقي في فلسطين، كما وتسمحان أيضاً للولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وكندا بالتأكيد مراراً وتكراراً لدعمهم للأبارتهايد من خلال الخطاب السياسي والدعم العسكري والعقود واتفاقات التجارة المبرمة مع "إسرائيل" والتربّح على مستوى الشركات الاحتكارية والمتعددة الجنسيات من الأستعمار واستمرار الأحتلال .
ان العلاقة الإستراتيجية التي تجمع دولة الاحتلال الإسرائيلي بالولايات المتحدة ومن يدور بفلك السياسات الخارجية الأميركية قائمة على فكر الاستعمار واضطهاد الشعوب وضمان استمرار الهيمنة الأميركية كشرطي هذا العالم ، رغم ما يبدو اليوم من بدايات انهيار هذا المسلك القائم على النظام الاحادي القطب .
فالإرهاب كان وما زال احد سمات تلك العلاقة الاستراتيجية وهو لا يقتصر على تلك العمليات التي تمارسها "داعش" و"القاعدة" وغيرهما بالمنطقة، بل هناك أشكال إرهاب الدولة الذي تمارسه دولة أو مجموعة دول ضد غيرها من الدول ، سواء بشكل عسكري مباشر أو غير مباشر عن طريق تنظيمات إرهابية تنفّذ العمليات بالوكالة عن الدولة الممولة ، وما فعلته الولايات المتحدة في المنطقة بالتعاون والشراكة مع دولة الاحتلال تحت ذريعة "مشروع الشرق الأوسط الجديد" هو شكل من أشكال الإرهاب الذي ما زالت تداعياته جارية من خلال الشراكة مع قوى الإسلام السياسي الإخواني بالمنطقة لاستمرار ضرب الدولة الوطنية العربية وأهداف المشروع الوطني الفلسطيني لدحر الاحتلال الأستعماري، لأن قندهار اهم لهم من بيت لحم كما ذكرت في مقالي الاسبوع الماضي .
أن العلاقة القائمة بين الدولتين وما يمثله الانحياز في الكونغرس الاميركي للدولة العبرية ليس جديدًا بالطبع، لكن هناك مساحة ولو ضيقة على الأقل كانت قائمة لتفهم الوضع الفلسطيني وحقوق شعبنا رغم انها على الورق.
الآن هذه المساحة لم يعد لها أثر يذكر في الكونغرس سوى من قلة بسيطة تتمثل بمجموعة التقدميين اليساريين او الاشتراكين بالحزب الديمقراطي بزعامة بيرني ساندرز وعدد من الاعضاء من جذور عربية لا يتجاوز عددهم اصابع اليد للأسف، وعلى الأرجح أن سياسة غض النظر التي اعتمدتها إدارة بايدن إزاء هذه الاستباحات، ساهمت في تعزيز النعرة ضد الفلسطينيين إلى حد الخروج عن النمط المتوارث سابقا داخل الحزب الديمقراطي بشكل نسبي طبعا، او حتى عندما كان الجمهوريون في البيت الأبيض أو في موقع الغالبية بمجلس الكونغرس ، طالما حركة التضامن الشعبي الاميركي مع شعبنا لم تصل بعد إلى ما يشابه الاعتراض على الحرب ضد الشعب الفيتنامي بإتساعها وجماهيريتها في كل الولايات .
فقبل شهرين جرى طرح مشروع قرار في مجلس النواب "الكونغرس" لتهنئة إسرائيل بعيدها الـ "٧٥". وخلافا للمعتاد، تجاهل تماماً ذكر شعبنا الفلسطيني وتطرق فقط إلى السلام بين إسرائيل و"الدول الأخرى المجاورة"، حيث رفض الجمهوريون أي إشارة إلى حل الدولتين كما كان يجري في السابق، واقتصرت الإشارة إلى "اتفاقيات أبراهام" فقط ، وقد صوت اعضاء الحزب الديمقراطي إلى جانب هذا القرار من التهنئة سوى بامتناع أو اعتراض عدد بسيط من الديمقراطيين .
قرار آخر كان قد صدر قبل يومين باغلبية اعضاء الكونغرس من الحزبين سوى باعتراض "٩" اعضاء فقط يرفض ادعاء أن إسرائيل هي دولة فصل عنصري ، كما ويؤكد على حقها بالدفاع عن نفسها ، كذلك فعل الأوروبيون ، رغم ان إسرائيل تدافع فقط عن استمرار احتلالها الاستعماري .
هذا بالإضافة إلى مسار تصويت الولايات المتحدة في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة على القرارات المتعلقة بفلسطين، وهو ما يحمي دولة الاحتلال بل ويشجعها الآن على استمرار جرائمها دون أي محاسبة او عقوبات بل باستمرار اتباع سياسة الجزرة دون العصا، بهدف رفع العتب أو استيعاب بعض الاعتراضات من هنا وهنالك .
حتى العجوز بايدن لم يخف صهيونيته التي جاهر بها أثناء زيارته بيت لحم، والتي طالبنا هو بها بانتظار عودة المسيح لتلبية طلباتنا وحقوقنا، هكذا وبكل وقاحة تلك هي السياسة الأميركية والتي ترسمها الدولة العميقة بالولايات المتحدة بتأثير أصحاب مجمع الصناعات العسكرية والمالية هنالك بما يضمن استمرارها لخدمة ما اشرت له من محددات هذه العلاقة الاستراتيجية.
أن الأزمة العابرة اليوم بين الإدارة الأميركية وحكومة دولة الاحتلال، لا تشكل برأيي خلافا حول طبيعة العلاقة الاستراتيجية أو على دور دولة الاحتلال الوظيفي ليس بالمنطقة فحسب بل وفي التدخل بشأن الاوضاع الداخلية في عدد من دول العالم للحفاظ على دور وهيمنة الولايات المتحدة ومصالحهما المشتركة المرتبطة بالحركة الصهيونية ومصالح المال وإدارة صراع بعض بؤر النزاع حول العالم، ومنها استمرار إدارة صراعنا مع الحركة الصهيونية ونتاجها المتمثل بدولة الاحتلال ونظام الفصل العنصري، من خلال منهج ادارة الأزمة دون حلها بما يتيح المجال لفرض الوقائع الجديدة على الأرض على طريق تنفيذ رؤية الاصولية المسيحية الصهيونية واجماع الأحزاب الصهيونية المرتبط بذلك ، بالرغم مما تعاني منه دولة الاحتلال من تاَكل وصراع داخلي بين مصالح النزعات العرقية في مجتمعهم والواقع تحت تداعيات خلافات الحركة الصهيونية نفسها منذ نشأتها .
الإدارة الأميركية تريد ضمانات استقرار الأمور بدولة الاحتلال والحفاظ على وحدتها وقوتها لتتمكن هي من تنفيذ مخططاتها بالمنطقة والتي رسمتها منذ نصف قرن أو أكثر، كما هو حاصل من طرفها بمنطقة شرق وسط أوروبا ومحاولات حصار روسيا بالحرب التي تخوضها بالوكالة، ذلك المخطط الذي تحدث عنه قبل اربعة عقود مستشار الامن القومي الاميركي الصهيوني بريجنسكي، إلى جانب ما تقوم به من محاولات منع تمدد قوة الصين بالعالم والتحول إلى النظام المتعدد الاقطاب واضعاف أوروبا كتابعة للسياسات الاميركية.
ان الولايات المتحدة لا شأن لها فيما ترفعه المعارضة الصهيونية والتي لا شأن لموضوع الاحتلال بها، والمتعلقة وفق اهتمامهم بالإجراءات القضائية وزعمهم بتغييب الديمقراطية وصعود الديكتاتورية . فتاريخ السياسة الخارجية الاميركية قائم ضمن مكوناته المختلفة على دعم ومساندة زعماء ديكتاتورين غيبوا الديمقراطية بل وبطشوا في شعوبهم في اميركا اللاتينية، افريقيا، اسيا وبالبلقان . وهي اي الولايات المتحدة من قامت أو ساندت انقلابات ضد انظمة حكم ديمقراطية منتخبة ، فالمعيار بالنسبة لها من وجود انظمة ديكتاتورية أو ديمقراطية هو بمدى خدمة هذه الانظمة لسياساتها ونفوذها ومخططاتها. إنها زوبعة بدأت بالانقشاع من خلال الاتفاق على دعوة نتنياهو إلى واشنطن والاستقبال الحافل لهيرتسوغ وربما لقرب عودة غانتس إلى الحكومة اذا تم ضمان حماية نتنياهو والرؤية الأميركية وفق صفقة من الممكن ابرامها.