أقر البرلمان الإسرائيلي «الكنيست»، أول من أمس، قانوناً يلغي قانون «حجة المعقولية» بتصويت 64 عضو كنيست يمثلون الأحزاب المشاركة في الحكومة، في حين غاب عن التصويت كل أعضاء الكنيست من المعارضة لدرجة أن أحداً لم يصوّت بالمعارضة أو الامتناع. وهذا رغم كل التحذيرات التي صدرت عن قادة حركة «الاحتجاج» وعدد كبير من زعماء المعارضة ورجالات أمن سابقين ورجال أعمال وأكاديميين وإعلاميين، ونسبة مهمة من النخب الإسرائيلية المختلفة. فرئيس الحكومة بضغط من وزير الدفاع، الذي حاول على ما يبدو أن يتوصل إلى صيغة أكثر مرونة ومقبولة على الجميع في اللحظات الأخيرة، لم ينجح في إقناع زملائه في الحكومة، خاصة وزير العدل ياريف ليفين والوزير إيتمار بن غفير، اللذين هددا بإسقاط الحكومة في حال الموافقة على أي تعديل ولو كان طفيفاً. وهكذا حصل التصويت بمعارضة كل التحفظات التي قدمتها المعارضة والبالغ عددها 145 تحفظاً قبل التصويت على القانون نفسه.
إقرار إلغاء قانون «حجة المعقولية»، الذي يمنح الحكومة قدرة أكبر على تقليل وتحييد قوة محكمة العدل العليا في معارضة قرارات الحكومة التي تتعارض مع حقوق المواطنين أو تتناقض مع روح القانون بناء على تقدير القضاة، أثار غضب الجمهور المعارض لسنّ القانون الجديد الذي يمثل واحداً من عشرات القوانين التي يراد منها تكريس سيطرة السلطة التنفيذية المدعومة من أغلبية برلمانية على السلطة القضائية. وازدادت حدة المواجهات بين المتظاهرين ورجال الشرطة بسبب إغلاق الشوارع الرئيسة في تل أبيب، ما أدى لاستخدام القوة في تفريق المتظاهرين. وتهدد حركة «الاحتجاج» بتصعيد المعارضة وصولاً إلى العصيان المدني الشامل. ويبدو أن نقابات العمال «الهستدروت» ستدلي بدلوها في هذه العملية من خلال إعلان الإضراب في المرافق الاقتصادية، خاصة بعد أن رفضت الحكومة مقترحها الذي تمثل في تجميد التعديلات القضائية لمدة سنة ونصف السنة مقابل تخفيف الاحتجاج الشعبي ضد الحكومة.
هناك مخاطر كبيرة تحدق بإسرائيل نتيجة استمرار بنيامين نتنياهو وائتلافه الحاكم في تطبيق برنامج «الانقلاب» على السلطة القضائية، وأهمها خطر تفكك الجيش الإسرائيلي؛ بعد رفض مجموعات كبيرة من ضباط وجنود الاحتياط التوجه للخدمة في الجيش؛ احتجاجاً على سن القانون وعلى توجه الحكومة العام ضد السلطة القضائية. وهؤلاء يضمون وحدات النخبة في أذرع الجيش المختلفة مثل سلاح الجو وهيئة الأركان ووحدة 8200 في سلاح الاستخبارات أي وحدة السايبر، والقوات الضاربة وجهاز المخابرات العامة «الشاباك» وكل الأجهزة الأمنية الأخرى. وهذا يعني أن نسبة كبيرة من قوات الجيش تمتنع عن الخدمة، خاصة أن جيش الاحتلال يعتمد على قوات الاحتياط الذين يبلغ عددهم حوالى 560 ألفاً من أصل 750 ألفاً عدد قوات الجيش كله. وعملياً لا تستطيع إسرائيل شن أي حرب أو حتى عملية محدودة كالحروب على غزة من دون قوات الاحتياط الذين يمثلون الخبرة العسكرية الحقيقية والقوة الأهم في الجيش الإسرائيلي.
الخطر الثاني من حيث الأهمية هو تدهور الوضع الاقتصادي، حيث يتوقع أن ينخفض التصنيف الائتماني الإسرائيلي على المستوى العالمي، وهو فعلياً انخفض في نيسان الماضي من «إيجابي» إلى «مستقر» على خلفية الاحتجاجات، ويمكن أن يحصل تدهور كبير يؤدي إلى انخفاض قيمة الشيكل وزيادة التضخم والبطالة. ويشكل إضراب النقابات عاملاً مهماً في دفع الاقتصاد نحو مشكلات كبيرة قد تؤثر على مستوى معيشة الإسرائيليين.
أما الخطر الثالث فهو الشرخ الداخلي العميق في المجتمع الإسرائيلي، والذي سيبقى قائماً مهما حصل في إسرائيل وحتى لو تم تجاوز قضية التعديلات القضائية. فلا يمكن أن يعود المجتمع لصيغة التعايش السابقة بين مختلف التناقضات التي كانت تميز إسرائيل من صراع بين العلمانيين والمتدينين، ونزاع على السيطرة بين اليهود «الأشكناز» واليهود «السفارديم» أي الغربيين والشرقيين. والوضع الخاص باليهود الروس والمهاجرين من دول الاتحاد السوفياتي سابقاً، والتمييز ضد اليهود الإثيوبيين. واليوم الصراع مختلف بين تيار ديني - صهيوني متطرف لا يؤمن بالديمقراطية والتعددية، وبين قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي.
ويشكل فقد ثقة العالم بالجهاز القضائي الإسرائيلي، وبمحكمة العدل العليا على وجه الخصوص، مدعاة لتقديم قادة سياسيين وأمنيين إسرائيليين بمن فيهم ضباط وجنود جيش الاحتلال للمحاكم الدولية. كما سيفقد إسرائيل القدرة على استقطاب الاستثمارات الخارجية، بالإضافة إلى تشجيع هجرة رؤوس الأموال الإسرائيلية، وهجرة الشباب من إسرائيل للخارج.
تمرير قانون إلغاء «حجة المعقولية»، ولاحقاً تعديل تركيبة لجنة اختيار القضاة في المحكمة العليا وهو القانون الأخطر، سيضعان إسرائيل في وضع خطير على مستوى إمكانية حدوث حرب أهلية والانزلاق نحو الفوضى. وستترتب على الصراع الحالي تبعات كبيرة على مستقبل دولة إسرائيل في هذه المنطقة. وهو فعلياً يأخذها نحو المجهول. ولا أحد يمكنه أن يتنبأ بما يمكن أن يحصل بعد سنة أو عدة سنوات من الآن على مستوى الوحدة الداخلية وقوة وحصانة إسرائيل وعلاقاتها مع العالم، بما في ذلك مع أصدقائها وحلفائها الذين لا يروق لهم ما يحصل فيها. ناهيكم عمّا سيحدث في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الذي لا يتسع المجال لتناول الآثار المترتبة عليه نتيجة للوضع الداخلي الإسرائيلي.