فرنسا "الأمّ الحنون"... للشيعة؟!

حجم الخط

بقلم د. فادي الأحمر

اعتاد الموارنة تسمية فرنسا بـ"الأمّ الحنون". علاقتهم بها تاريخيّة. تعود إلى القرن السادس عشر. دعمتهم في القائمقاميّتين والمتصرّفية. ثمّ أعلنت تأسيس "دولة لبنان الكبير" وأعطتهم رئاستها.

تخلّت فرنسا عن الموارنة
بعد مئة عام لم يبقَ سوى بعض الأساقفة الذين درسوا في الجامعة اليسوعيّة والسوربون متمسّكين بتسمية "الأمّ الحنون". وحافظت بكركي على تقليد قدّاس إثنين الفصح على نيّة فرنسا. تبدّلت الأحوال. ففي السياسة لا أمّ ولا أب ولا شقيق ولا شقيقة. إنّما مصالح. ومصلحة فرنسا لم تعد مع الموارنة. تراجعوا في السياسة والديمغرافيا. فتوجّهت عنهم. بعد الحرب اتّخذت فرنسا جانب السُّنّة. فمصالحها النفطيّة والاقتصادية والتجاريّة مع العالم العربي ذي الغالبيّة السنّيّة. وساهمت صداقة الحريري – شيراك في توطيد العلاقة. نظّمت باريس المؤتمرات لدعم لبنان الذي أطلق رفيق الحريري ورشة إعادة بنائه. ولكن بعد سنتين على اغتياله، وتحديداً بعد غزوة 7 أيار 2008، بدأ ميزان القوى يتبدّل لصالح الحزب. وراحت فرنسا تبدّل في تعاطيها مع المكوّنات اللبنانيّة.

طرح المثالثة لاستمالة الشيعة
بدأت مرحلة استمالة الشيعة عبر التعامل مع الحزب، الممثّل الأوّل لهم. في بداية تموز 2007 زار جان كلود كوسران، موفداً من الرئيس يومها، نيكولا ساركوزي، إيران مرّتين خلال عشرة أيام. وطرح على طهران المثالثة في لبنان! ربّما كان الطرح تحضيراً للقاء ممثّلي الأطراف اللبنانيّة، وبينهم الحزب، في "الحوار الوطني اللبنانيّ" في مدينة "لا سيل سان كلو" (13-16 تموز 2007). كانت أوّل دعوة من نوعها للحزب من قبل دولة غربيّة. ففرنسا تفصل بين جناحَيْ الحزب العسكري والسياسيّ. تصنّف الأوّل إرهابيّاً. وتتعامل مع الثاني. وهو فصل عجيب من فصول السياسة الفرنسيّة الغريبة في لبنان!

مشكلة فرنسا مع الحزب أنّه يأخذ منها ولا يعطيها. فالقيادة السياسية للشيعة لا تشيه النخبة السياسية المارونية. هي ليست بحاجة إلى "أمّ حنون". لديها "وليّ فقيه" يمدّها بالسلاح والمال

ليس أغرب من الفصل الفرنسيّ بين جناحَيْ الحزب سوى طلب الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون من رئيس كتلة الحزب النيابية محمد رعد في قصر الصنوبر أن يعود الحزب إلى لبنانيّته، وأن يُثبت أنّه حزب لبنانيّ. ربّما لم يتسنَّ للرئيس الشابّ الآتي من عالم المال قراءة تاريخ الحزب ليعرف أنّه حزب إيرانيّ حتى العظم: مؤسّسوه إيرانيون، وعقيدته إيرانيّة، "وأسلحته ومعاشاته وأكله وشربه ولباسه من الجمهوريّة الإسلامية في إيران" (الكلام لأمينه العام).

بين فرنسا والموارنة قِيم مشتركة
بعيداً عن المصالح السياسيّة، يجمع بين فرنسا والموارنة العديد من القيَم الإنسانيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة. فالموارنة يؤمنون بالحرّيّة. وقد عبّر عنها بشكل قويّ البطريرك الراحل نصرالله صفير عندما قال: "إذا ما خُيّرنا بين العيش المشترك والحرّيّة، نختار الحريّة". هذا على الرغم من حرصه الكبير على العيش المشترك. وهم مؤمنون بالدولة والدستور والقوانين. وقد عملوا على تمتينها في لبنان. والموارنة مؤمنون بالاقتصاد الليبرالي الحرّ الذي تميّز به "لبنان الكبير" وكانوا روّاده. ومؤمنون بالعلمانيّة. نادوا بها وناضلوا من أجلها قبل الحرب وبعدها... أخيراً وليس آخراً لدى الموارنة الثقافة الغربيّة الفرنكوفونيّة. أتقنوها وأبدعوا بها. وبنوا الصروح العلميّة لتنشئة اللبنانيين عليها...

بين فرنسا والحزب مصالح متقاطعة
في المقابل لا شيء يجمع بين فرنسا والحزب. فالحزب بعيد كلّ البعد عن القِيم التي قامت عليها الجمهوريّة الفرنسيّة. فهو حزب دينيّ أصوليّ. لا يؤمن بالحرّيّة. يستعمل لغة التهديد بالسلاح في السياسة والحوار. نظرته للاقتصاد يعبّر عنها "القرض الحسن" نظريات "زراعة البلاكين". ولا حاجة إلى الكلام عن نظرته للدستور والقوانين. فوجوده وتنظيمه وسلاحه كلّها مخالفة للدستور والقوانين. وأعماله العسكرية، التي تصنّفها معظم دول أوروبا ومعظم الدول العربية إرهابية وتدخّلاته العسكرية في العديد من الدول تتخطّى كلّ القوانين الدوليّة. إتقان بعض الشيعة المغتربين في إفريقيا الداعمين للحزب للّغة الفرنسيّة لا يعني تبنيّ القيادة السياسية والنخبة الاجتماعية الشيعية لتلك القِيم الاجتماعيّة الفرنسيّة.

بعيداً عن المصالح السياسيّة، يجمع بين فرنسا والموارنة العديد من القيَم الإنسانيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة

ما يجمع بين فرنسا والحزب مصالح سياسيّة متقاطعة. لا يختلف اثنان أنّ لفرنسا مصالح جيوسياسيّة في لبنان تبدأ بعلاقاته التاريخيّة معها ولا تنتهي بموقعه الجيوستراتيجي على شرق المتوسّط، مروراً بالعلاقات الاقتصادية والثقافيّة وغيرها. وهو آخر "موطئ قدم" لها في المنطقة. وعينها على ثروته النفطية والغازيّة استثماراً واستهلاكاً. من أجل كلّ هذه المصالح تعمد فرنسا إلى التعامل مع الحزب، الطرف الأقوى على الساحة اللبنانيّة والمهيمن بقوّة سلاحه على الدولة ومؤسّساتها. وأبعد من لبنان، لفرنسا مصالح مع إيران وعينها على الاستثمارات فيها وعلى ثروتها النفطية والغازيّة أيضاً بعد رفع العقوبات عنها. كذلك لفرنسا مصالح نفطية كبيرة في العراق، الذي تهيمن عليه إيران.
من جهته، يحرص الحزب على الحفاظ على العلاقة مع فرنسا لأسباب استراتيجيّة: فهي عضو دائم في مجلس الأمن، ودولة أساسيّة في الاتحاد الأوروبيّ، وعضو في دول الـ 5+1 التي تفاوض إيران في ملفّها النوويّ. وتلعب أحياناً دور الوسيط بين الحزب وإسرائيل. وآخر دور لها كان في ترسيم الحدود البحريّة.

صفعتان للمبادرة الفرنسيّة
في هذا الإطار أتى تبنّي قصر الإليزيه لمرشّح الحزب سليمان فرنجية، فأثار اعتراض الموارنة الذين يرفضون سليمان فرنجية، وطرح تسوية فرنجية – نواف سلام أحرجتها مع حلفائها الذين لم يقبلوا بها. لذلك تعرّضت دبلوماسيّتها في الأسبوع الأخير لصفعتين:
- الأولى داخلية وجّهها إليها سمير جعجع الذي رفض الحوار، الذي هو مطلب الثنائي الشيعيّ، ونعرف أين يبدأ ولكن لا نعرف أين ينتهي.

- والثانية خارجيّة وجّهها إليها بيان اللقاء الخماسي في الدوحة الذي أعاد تأكيد بيان اللقاء الثلاثيّ في نيويورك (أيلول 2022) وأنّ الحلّ في لبنان يكون بانتخاب المجلس النيابيّ رئيساً للجمهورية "يجسّد النزاهة"، و"يوحّد الأمّة"، و"يشكّل ائتلافاً واسعاً وشاملاً لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الأساسية"، ويقوم أيضاً بتشكيل حكومة تنفّذ "قرارات مجلس الأمن الدولي والاتفاقيات والقرارات الدولية الأخرى ذات الصلة"، "بالإضافة إلى الالتزام بوثيقة الوفاق الوطني".
مشكلة فرنسا مع الحزب أنّه يأخذ منها ولا يعطيها. فالقيادة السياسية للشيعة لا تشيه النخبة السياسية المارونية. هي ليست بحاجة إلى "أمّ حنون". لديها "وليّ فقيه" يمدّها بالسلاح والمال.