مهرجان فلسطين الدولي وفرقة الفنون الشعبية الفلسطينية

79b49d91080c6f66e3de8c2e3d827910.jpg
حجم الخط

بقلم د أحمد قطامش

في العادة إنني اكتب إحساسي في المناسبات الفنية ممزوجاً بمقولات نظرية ، ورغم مروري بمخاضات في الأعوام الأخيرة لم انفك قابضاً على كلمات ايريك فروم ( معنى الوجود الإنساني بحثه عن القيم السامية والنضال لأجلها لا إلى الملكية والثراء والاستهلاكية ) وهذا ما وضعت يدي عليه عندما علمت أن مركز الفن الشعبي الذي نظم مهرجان فلسطين الدولي 22 أسوة بفرقة الفنون الشعبية ، انهما على دأبهما قد ادارا الظهر لإغراءات مالية تمسس ثباتهما على الموقف التحرري فاختارا إقامة مهرجان داخلي لا خارجي اتصالا بالفارق في التكلفة المالية وتحسباً من التقلبات الأمنية ... فالمنطلق الإيديولوجي لا البراغماتي النفعي ما يحركهما ، وهذا لا يقارن بداهة بتضحيات من يقتحمون السماء شهداء في سبيل الوطن والقضية العادلة، لكنهما يتمفصلان مع فاعليات لا حصر لها في مبدأ التضحية وان تفاوت مستواها ، فلا حرية دون تضحية ، وهذا مبدأ أخلاقي يرقى إلى مستوى أداه تحليليه تكرس وتبرهن على صوابيته في تجارب كبيرة وصغيرة محلية وعالمية .

 

( يمكن أن يرتبك المسار لكن لا يجب أن يهتز اليقين ) د. رضوى عاشور . فمهما اشتدت التحديات هناك على الدوام فرسان كما الشموع يحترقون لإنارة الدرب وان كانوا أقلية ( فلا تستوحشوا طريق الحق لقلة السائرين فيه ) علي بن أبي طالب ، وان كنت أظن أن هؤلاء ليسوا أقلية في فلسطين، بل أغلبية انخراطاً وتأييداً، ومن لا يصدقني ليذهب إلى مدينة جنبين وأريافها ومخيمها الرمز حيث تردد الأمهات ( الحمد الله أن أبناءنا افلتوا من الحصار وليس لي شهيد واحد بل عشرة فكلهم أبنائي) .

 

لقد شاهدت أمسية الافتتاح لفرقة " أبيدر" المكونة من فلسطينيين وأردنيين وسويديين واسبان وآلات موسيقية متنوعة وراقصة فلامنكو أدهشت الجميع، وأمسية فرقة الفنون، أي ليلتان من خمسة فضلا عن تفاعلات وأحاديث جانبية هنا وهناك، بما يسمح لي بالإشارة أن مركز الفن الشعبي المكون من قبضة بالكاد تصل أصابع الكف الواحد بما يتمتع به من تخطيط وتصميم ومتابعة وتكامل قد نظّم فاعلية تفوق قدرة أجهزة ومؤسسات كبيرة، يسندها نحو 83 متطوعا ومتطوعة يفخرون بدور المركز ورسالة المهرجان ( نتطوع لأننا ننتمي لرسالة المهرجان فهو يقام تزامناً مع 75 عاما على النكبة والتطهير العرقي ) وهذا حال 75 مفتاحا فهي مفاتيح الأمل وإطلاق الخيال .

 

وفي ليلة الافتتاح منعت السلطات الاستعمارية ركن مؤسس في فرقة أببدر ( الفنان أبيْ) من دخول الوطن ، وفي الليلة الرابعة منعت تعقيدات اخرى" طبلة الست المصرية " التي رشح أنها ستعرض في الأسبوع التالي . أما في الليلة الثالثة فقد أبدعت كعادتها أوركسترا فلسطين – معهد ادوار سعيد الوطني ، وفي الخامسة تألقت الفنانة نداء شرارة من الأردن .( ولأن المهرجان عنصرا فاعلا في المشهد الثقافي – الاجتماعي وينأى بنفسه عن التطبيع والمطبعين مدعوما من المؤسسات المحلية والشراكة مع بلدية رام الله ، أجد من واجبي أن أتطوع فيه ) .

 

منذ اللحظة الأولى تقاطر المشاهدون والمشاهدات بوجوه مبتسمة يعلوها التفاؤل فهم قد اختبروا نسخ المهرجان السابقة ويعرفون انه يشكل رافدا في مسيرة الحداثة، ولكنها حداثة مصنوعة محليا تسعي للسير خطوة للأمام بعيداً عن صرعات الغرب . فالمسرح كما القاعة لا تمييز ديني أو جنسوي فيه وهو يضم كل الأجيال ومن كل الطبقات والشرائح ومن المدينة والقرية والمخيم ، أما المضمون فهو من رأسه إلى كعبة يتماهى مع الثقافة التحررية دونما ابتسار أو تلويث وفي كل نسخة ينجح في ترجمة مقولة العالمي بريخت ( الفن الطليعي يتقدم على الجماهير ويمد يده لها ) مبتعداً عن الطلاسم والتجريدات (ونرجسية المثقفين ) بلقزيز. فهو منصة للإبداع ورافعة لتطوير الذائقة ويتواصل مع هموم الناس.

 

الفن ليس بيانا سياسيا ولا تظاهرة ولا رصاصة وتحظى الجمالية بمساحة مرموقة بما يجعل منه فناً .

 

 ولكيما يكون كذلك إنما يتوجب أن يصب في طاحونة الارتقاء بالوعي وخدمة الأهداف الكبرى. ولئن كانت ( السياسة هي الصراع القومي والطبقي ) لينين وأية صراعات على صلة ، فالثقافة وفنونها إنما هي مشحونة بالسياسة وان كان لها طابعها الخاص . وحتى الذين يقولون ( لا نتدخل بالسياسة ) إنما هم يخدمون سياسة من يحاول تطويق وعزل الفعل السياسي التحرري ، وربما ينبغي استدعاء كلمات الحكيم ( قد نواجه هزيمة عسكرية وهذه ليست كارثة وقد يلي الهزيمة العسكرية انهيار سياسي وهذه مشكلة مضاعفة ولكنها ليست كارثة فالكارثة تحدث عندما تنهار الجبهة الثقافية – النظرية التي تمتد لعمق الإنسان والبنية الداخلية للمجتمع ) .

 

 فالثقافة وبضمنها الفن حارس للهوية وترشد السياسة وتبصرها إنها اسمنت يخلق اللحمة بين مداميك الشعب ، فيما المخطط المعادي يستهدف تذرير المجتمع وتغطيسه في الاستهلاكية والتفاهات .

والثقافة لا تكتفي بالمفاخرة بالنضال والشهداء والبطولات وإنما تكتمل بزرع القيم الأخلاقية التقدمية التي تتشبث بالحقوق والثقة بالجماهير صانعة التاريخ وتصد اليأسية والإحباط وإضاعة الاتجاه وتنقد الخرافات والجهل ...

 

يسهل ملاحظة حضور الانتماء الوطني، فالصدور والأفئدة عامرة بحب الوطن ومجرد ذكر فلسطين أو الشهداء أو الأسرى أو كلمات مغناه للمقاومة تهب القاعة ويعلو التصفيق.

 

قال مفكر فرنسي قبل نصف قرن (أعجب للعرب كيف لم يندثروا وقد تعرضوا لاجتياح إقطاعي عثماني أربعة قرون وزمن استعماري غربي رأسمالي قرن ويزيد ، كيف لم يندثروا . أن لديهم عبقرية التاريخ،) ويجوز التساؤل أيضا ما رأيك في شعب كان مجرد 1.15 مليون اقتلعته العنصرية الاستعمارية من دياره ومنازله وشردته في أرجاء المعمورة ولم ( يتحول لغبار الأرض) كما تمنت وثائق الخارجية الإسرائيلية بعد النكبة ،ويتجاوز اليوم 15 مليونا ومئات الآلاف من أمهات فلسطينيات وآباء غير فلسطينيين ، يذهب جيل ويحل جيل، يخبو تنظيم ويصعد تنظيم ،وينتقل من نموذج نضالي إلى نموذج آخر ولكنه يقبض على الجمر بثبات، ومجرد عشرات حملوا الشهادات الجامعية قبل الاقتلاع تجاوزوا اليوم المليون و هذا العام يدرس ربع مليون في جامعات الوطن !!

 

الناس ساخطون ونبرتهم الشكاءة أو النقدية عالية، ولكن الوعي يستقيم ويثمر قوة تغيير أن استكمل بأن (الناس هم الحل ) فلن تسقط الحلول بالمظلات ولا بالصراخ والجعجعات ، وإنما بالفعل الايجابي البناء الذي لا ضفاف له . والفيصل أن تصب الجهود وزخات المطر في نهر (التحرير الشامل للإنسان ) ماركس بالتحرر من الاستعمار والاستغلال الطبقي والبطريركية ومخلفات القرون الوسطى .

 

(نعتمد أولا على عوائد الدبكة) كادر اداري و(على التذاكر والمبيعات) كادر فني ، على هذا النحو يترجم المركز والفرقة الاعتماد على النفس وثمة توجه للتضافر والتعاون في الشبكة الادائية المكونة من 13 مؤسسه على أرضية وطنية إبداعية . واعتقد ان الشبكة تتجاوز الفن الادائي الى الفن الاحتجاجي والتحرري، وهي تتميز بعدم الغطس في التمويل المشروط (اذ ما فائدة ان يربح المرء العالم ويخسر نفسه ) المسيح .

 

وعليه ، فمسيرة الفرقة والمركز تمضي للأمام ( فالتوقف يعني التأخر ) و( احد عوامل نجاحنا هو المعيار المهني والاكاديمي ، وكذا الحاضنة الشعبية من الاهل الذين يرون النتائج الإيجابية على أبنائهم .

 

واخيراً اين كانت فرقة الفنون وأين أصبحت بون شاسع ، فهي بحق براكسيس يعكس جدلية الإرادة والممارسة، وهي مختبر للمبادرات والاجتهادات ( دع مئة وردة تتفتح) ماو، تقوم على التخصص والتكامل من دون تراتب اقطاعي ، وفي طلات 2023 جمعت لوحات من اشيرة وطلت البراعم ولوحات جديدة من " رفاق الدرب" المستوحاة من كتابات المفكر والقائد الثوري وليد دقة التي حضرت زوجته سناء وطفلتهما ميلاد، ولوحة (لو رحل صوتي ) عن الإعلامية الشهيدة والصديقة المقربة شرين أبو عاقلة التي لا ننساها ولم تختف عزيمة عائلتها الصغيرة وعائلتها الكبيرة ( الجزيرة) في متابعة قضيتها .. كانت الإضافة نوعية ومؤثرة حيث امتزجت فرقة الفنون ببراعمها في تدريبات مثابرة امتدت اشهرا مرتين أسبوعيا واسابيع من تصميم الحركة للوحات الجديدة... بما يعكس جدية لا تعرف التراخي .

 

انها فرقة غير محترفة ولكن انضباطها والتزامها وتفانيها وابداعها يرقى الى مستوى الاحتراف ... وعلى مساحة 65 دقيقة تقمصت حركة الأجساد مضامين اللوحات والكلمات وغلب التفاؤل والبهجة والامل رغم لوحات الحزن والالم.

 

أفواج تليها أفواج في دوائر او خطوط مستقيمة او إهليلجيه الى ان بلغت الذروة ( لوحة فنونيات) باجتماع 80 راقصا وراقصة ، بدقة ساعة سويسرية على خشبة المسرح . لم تنشأ فراغات ولم تصب الأجساد بالإعياء او التثاقل ، فطاقتها الفوارة استولدت طاقة متدفقة في القاعة . وفي الثقافة الصينية ينحني المرء احتراما واعتذارا اما في ثقافتنا فقد انتصبت القامات ككتيبة عسكرية وتصفيق مدوٍ متكرر.

 

لن اسهب في رصد او قراءة أمسية الفنون، وحسبي التكثيف بالقول : في العادة تكون " فنونيات " هي الذروة اما في هذه الأمسية فلها اكثر من ذروة ، ويخامرني اعتقاد ان الأمسية بكليتها هي ذروة اعمال فرقة الفنون من ناحية مستوى الأداء وتناغم الجزء مع الكل ، ودرجة الجمالية، ورشاقة الأجساد وعنفوانها والتصميم وعمق المضامين ودرجة التواصل مع الجمهور ودرجة تفاعل الجمهور مع الفرقة ، اما الأزياء والإخراج والصوت والسنوغرافيا والموسيقى والاضاءة والفنيات المساعدة كالمقولات وصوت شرين على شاشة المسرح ... كلها بلغت شأنا جديدا يعكس جهداً عظيماً وتعمُل وقبض على التفاصيل ( فالعمل هو التفصيل ) دوبريه، واحتضان لمبادرات لا تتوقف ، وهذا لم يكن ليتحقق لولا الجلد والمصابرة ( العبقرية هي مصابرة العقل ) اينشتاين اما الجنون ( فهو ان تفعل نفس الشيء وتتوقع نتائج مغايرة ) فالفرقة تتجدد باستمرار ( فالتعاسة .. هي عدم تمثيل المتغيرات ) لينين والتطوير هو الإمساك بالإيجاب والاضافة عليه. ولا انسى تميز وتوهج البراعم فقد بثوا البهجة واشعلوا الحماسة، دونما اغفال موهبة الطفلة والطفل الأصغر سنا ووزن كل منهما لا يتجاوز 20 كغم .

 

اما انت يا رفيق وليد فلوحة ( منتصب القامة امشي ) مرآة متواضعة لقامتك الشامخة وهامتك المرفوعة و(الأيام الاجمل لم تأت بعد ) ناظم حكمت .