حول لقاء الأمناء العامين… كم مرة يلدغ المؤمن من الجحر نفسه؟

حجم الخط

بقلم عبد الحميد صيام

في العاشر من الشهر الحالي وأثناء زيارة لمخيم جنين بعد المواجهة الكبرى بين رجال المقاومة وقوات هائلة من العدو الصهيوني، أطلق الرئيس الفلسطيني محمود عباس دعوة لاجتماع الأمناء العامين للفصائل لبحث سبل تعزيز الوحدة الوطنية في مواجهة الحكومة الأكثر تطرفا في تاريخ الكيان، وفي نفس الكلمة هدد «بقطع اليد من جذورها التي تهدد الأمن والوحدة». تلقفت القاهرة الفكرة ووجهت الدعوة للأمناء العامين للاجتماع يوم 30 تموز/يوليو الحالي للتشاور. ومن المقرر أن يتكلم الرئيس عباس في افتتاح الاجتماع، ثم يغادر الاجتماع ويترك الأمر لأعضاء في اللجنة المركزية لحركة فتح .
والغريب في الأمر أن الفصائل تلقفت الدعوة وأيدتها، وأعلنت استعدادها للحضور. وما أثار استغرابي مواقف بعض الفصائل الأساسية، التي مرّت بهذه التجربة مرارا وتكرارا، حتى لا نكاد نحصي عدد المرات التي دعيت فيها الفصائل للحوار الوطني، ويتم الاتفاق على نقاط أساسية أو برنامج وطني لاستعادة الوحدة وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد انفضاض الاجتماع «تعود حليمة لعادتها القديمة»، ويستؤنف التراشق الإعلامي وتحميل المسؤولية للآخر عن فشل الوحدة الوطنية. ومضطر أن أسأل الأمناء العامين: «كم مرة ستلدغ هذه الفصائل من الجحر نفسه؟». وكما يقول المثل الأمريكي، إذا صُفع الشخص مرة، فعار على من صَفع، أما إذا صُفع مرتين فالعار على من صُفع، فكيف إذا صُفع عشرين مرة. ماذا نسمي ذلك؟

الانقسام الحاصل في الساحة الفلسطينية ليس بين فتح وحماس، بل بين نهجين ورؤيتين وبرنامجين: نهج المقاومة العابر للفصائل كافة، ونهج التسوية والمفاوضات

تطورات خطيرة

جاءت هذه الدعوة بعد المواجهات الواسعة بين الكيان الصهيوني وأجهزته المتعددة على مدن نابلس وجنين وأريحا واستهداف المستوطنين لبلدات حوارة وترمسعيا وبورين وغيرها من القرى، حتى لا يكاد يمر يوم من دون وقوع شهداء أو هجوم للمستوطنين على قرى فلسطينية بهدف إرهابها وهدم بيوتها وحرق أشجارها. وهذه السنة هي الأعنف في المواجهات منذ عام 2005. في تلك المواجهات وقف الشعب الفلسطيني بكامله خلف المقاومة، خاصة في الاستفتاء العفوي الذي تجسد في المسيرات الشعبية الحاشدة، أثناء تشييع جثامين الشهداء. لقد بدأت ظاهرة الانتماء لمجموعات المقاومة تتسع وتنتقل من بلد إلى آخر، بعد أن كفر الشعب بغالبيته بخديعة المفاوضات والعملية السلمية الوهمية، ومناشدة المجتمع الدولي والتمسك بالمفاوضات والشرعية الدولية، التي تبقى صامتة أمام التوسع الاستيطاني والجرائم البشعة التي يرتكبها الكيان الصهيوني العنصري، وتسارع بإدانة أي عملية ثأرية يقوم بها الفلسطينيون. شعبية المقاومة أظهرت هشاشة هذه السلطة الوظيفية وضعفها وانهيار اي مساندة شعبية لها، التي كلما وصلت إلى هذا المستوى من التهميش دعت إلى الوحدة الوطنية والحوار الشامل، وما أن تمر غيوم الأزمة حتى تعود إلى مواقعها الأولى وبرنامج التنسيق الأمني والاتصالات مع رموز الكيان.
تأتي الدعوة هذه المرة في ظل اعتقالات سياسية واسعة، سواء بين طلبة الجامعات أو من بين جماعات المقاومة، أو من المحررين من السجون الصهيونية. وقد طالب الاجتماع الوطني، الذي عقد صباح الأحد الماضي في غزة ورام الله ودول الشتات، تحت عنوان «نحو خطة وطنية شاملة وقيادة موحدة لمواجهة حكومة المستوطنين الفاشية»، الفصائل المشاركة بإطلاق السجناء السياسيين شرطا مسبقا للمشاركة في الاجتماع. وقد أكد زياد نخالة، الذي شارك في الاجتماع، أن عدم إطلاق المعتقلين السياسيين قد يدعو فصيله لعدم المشاركة في الاجتماع». وتأتي هذه الدعوة في ظل تحولات كبرى وحاسمة في الكيان، تعدت فكرة التنافس السياسي بين تيارات سياسية متطرفة أو أحزاب يمينية، بل وصلت إلى صياغة أيديولوجية جديدة راسخة تقوم على تغييرات جذرية في النظام بحيث يصبح القضاء تابعا للسياسة، فقد فرضت التيارات الدينية المتطرفة رؤيتها وبصمتها على مستقبل الكيان، وأصبحت مسألة إعلان ضم المنطقة «جيم» مسألة وقت، من دون أن يكون للمحكمة العليا رأي مخالف، على فرض أنها ستخالف أصلا هذا القرار. التوجه المقبل قائم على أساس الاستيلاء على كل الأرض الفلسطينية وإغلاق ملف الحل السياسي، أو إعطاء أي نوع من الحقوق للفلسطينيين. وهذا التطرف وصل إلى التهديد بحل السلطة تماما لأنها عاجزة عن ضبط المقاومة الفلسطينية واستفحال ظاهرة الكتائب المقاتلة. السلطة أصبحت معزولة عن الشعب الفلسطيني من جهة، وغير مرضي عنها من حكومة الكيان لتقصيرها في أداء وظيفتها، بعد خروج مناطق الشمال الفلسطيني من تحت سيطرتها وتوسع تيار المقاومة.
وهنا نسأل عن معنى تهديد أبو مازن بقطع اليد من جذورها لمن يهدد الأمن. والسؤال البسيط والعفوي أمن من؟ من يهدد أمن الفلسطينيين؟ من يهد بيوتهم ويجتاح مخيماتهم ويعدم أبناءهم ويعتقل خيرة شبابهم ويداهم بيوتهم ليلا ويروع أطفالهم؟ من يجتاح قراهم ويحرق بساتينهم ويشعل النار في بيوتهم وسياراتهم؟ من يقتحم الأقصى ويروع المواطنين ويخلي البيوت من سكانها لتسليمها للمستوطنين؟ ما هو مصدر التهديد الذي يشمل كل الفلسطينيين؟ إذن من الذي يجب أن تقطع يده من الجذور؟ أما إذا كان مفهوم الأمن محصورا في أمن المستوطنين وقوات الاحتلال ومن يهدد أمنهم فهو الذي يستحق أن تقطع يده من الجذور، فعلى السلطة أن توضح هذا من دون مواربة. أمن من المهدد؟

لقاء القاهرة

كم مرة اجتمعت الفصائل واتفقت على تعزيز الوحدة الوطنية. آخر تلك اللقاءات كانت في الجزائر حيث وقع 14 فصيلا وثيقة الوحدة الوطنية في 13 أكتوبر 2022. أليس ما جرى في الجزائر حوارا وطنيا جادا برعاية دولة محترمة يكن لها الشعب الفلسطيني بكامله أسمى آيات الاحترام؟ فما الذي تغير؟ ألم يرفض يومها عزام الأحمد، بناء على تعليمات، إضافة بند تشكيل حكومة وحدة وطنية. فتشكيل حكومة وحدة وطنية بمشاركة حركتي حماس والجهاد يعني قبول هاتين الحركتين الانضواء تحت خيمة أوسلو، لأن الرئيس الفلسطيني عباس لن يقبل مشاركتهما إلا على أرضية ما يسميه، الشرعية الدولية والاتفاقات الموقعة بين الطرفين، وهذا بكل بساطة يشكل انتحارا سياسيا للفصيلين. أما إذا قبل عباس تشكيل حكومة وحدة وطنية، من دون أن يشير إلى الشرعية الدولية والاتفاقات الموقعة، فهذا يعني خروجه من مربع أوسلو والاقتراب إلى فصائل المقاومة والتحلل من الالتزامات الدولية ووقف التنسيق الأمني الذي وصفه يوما بأنه «مقدس». وهذا سيثير غضب إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا ويتهمونه بتشكيل حكومة تضم حركات مصنفة بأنها «إرهابية» وبالتالي سيفقد كل دعم وتأييد وتمويل من هذه الدول. إذن ستعود الفصائل من القاهرة إلى المربع الأول كما عادت من قبل. فإما حكومة وحدة وطنية تحت خيمة أوسلو أو لا يوجد اتفاق. وهل نسينا الدعوة إلى الانتخابات الشاملة، رئاسية وتشريعية واستكمال المجلس الوطني، في نهايات دورة ترامب بداية 2021 وعندما انتخب بايدن رئيسا تم إلغاؤها في مايو 2021؟ أنسينا أيضا اجتماع الأمناء العامين في سبتمبر 2020 من بيروت ورام الله؟ أين انتهى ذلك اللقاء؟ ألم تتفق حركتا حماس وفتح عام 2014 على الانتخابات بعد توقيع اتفاقية المصالحة في القاهرة؟ وبعد الاتفاق أصرت القيادة على ضرورة أن تقبل حركة حماس بالاتفاقيات الموقعة بين الطرفين، أي قبول اتفاقيات أوسلو؟ ففشلت المحاولة بعد أن رفضت حماس إدخالها قسريا في خيمة أوسلو الخطيرة.

شروط الحوار الوطني

الانقسام الحاصل في الساحة الفلسطينية ليس بين فتح وحماس، بل بين نهجين ورؤيتين وبرنامجين: نهج المقاومة العابر للفصائل كافة، بما فيها جماعات واسعة من حركة فتح، ونهج التسوية والمفاوضات والمراهنة على المجتمع الدولي، والعابر أيضا للفصائل والتيارات والأحزاب. فهناك فصائل وأحزاب لا وجود لها على الأرض تتمسك بدعم قيادة أوسلو تحت مبررات واهية، لذلك من دون حسم هذه النقطة والإجابة على السؤال المركزي: وحدة وطنية على أي برنامج؟ مفاوضات وتسوية أم مقاومة بكل أشكالها وصمود وتعبئة وحشد الجماهير؟ إن دعوة لحوار وطني وفي القاهرة ومن دون شروط مسبقة، إنما هي محاولة لترميم سلطة متهالكة لكسب وتجديد شرعية تتهاوى ومحاولة لتطويق ووأد قوى المقاومة الناهضة والتي بدأت تكسب شرعية ثورية وجماهيرية عارمة. الحوار الوطني، في رأينا، يجب أن يحسم نقاط الخلاف الجوهرية: هل التوافق يكون على أرضية أوسلو وانضواء الجميع تحت خيمة السلطة والمفاوضات والمجتمع الدولي؟ أم على أرضية إحياء المشروع الوطني كما يجسده الميثاق الوطني لعام 1968 واعتبار المقاومة استراتيجية وليس تكتيكا لتحسين شروط التفاوض. هذا السؤال نطرحه برسم المهرولين إلى القاهرة لحوار مكرر نعرف نتائجه مسبقا.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي