الحراك المتواصل لفئات المجتمع الإسرائيلي رافضة أو قابلة ما يسمى بالإصلاحات أو التعديلات أوالتدمير القضائي و"حجة المعقولية"، وفق فهم كل جهة على جانبي الطيف السياسي والمجتمعي هو حراك متناقض يوضح حقيقة الشرخ القائم بين "العلمانيين" من اليهود، وبين الموصوفين أنهم "المتدينون".
العلمانيون هنا يعتبرون "اليهودية" قومية وكفى، كأن تكون مجريًا وأن تكون فرنسيًا وأن تكون عربيًا أو تكون من البرازيل، فاليهودية لديهم "قومية" جامعة للألوان، ولأنها كذلك فهم يؤمنون بها دونًا عن سلطة الشريعة اليهودية، أو حكم الحاخامات ودستورهم المتمثل ب"التناخ" وشروحاته وفتاويهم.
المجتمع اليهودي الصهيوني أو الذي يتصف بأنه "العلماني"- وهو بزعاماته التي أسست الدولة - وعلى فرضية أن اليهودية قومية، وهو ما لم يتم إثباته لا تاريخيا ولا علميا ...، لنقل على هذه الفرضية فهو مجتمع أو فئة من المجتمع تعيش تناقضها الحاد ما بين العلمانية كما تفهمها هي وتطبقها، وبين حقيقة العلمانية المتداولة. فالعلمانية بأحد أهم تفسيراتها الحديثة هي أن تقف الدولة على مسافة واحدة بين المؤمنين وغير المؤمنين، وعلى مسافة واحدة بين كل المكونات الإثنية والقومية والمذهبية، اي على مسافة واحدة بين كل المواطنين بغض النظر عن عرقهم أو دينهم. وهذا ما لايقبله "العلمانيون" الإسرائيليون بالتطبيق، الا القلة المجهرية وهو قطعًا ما لا يقبله الذين يوصفون ب"المتدينين".
إن فكرة "المسافة الواحدة" بين كل المكونات القومية والدينية، فكرة مساواة لا تجد لها طريقًا للعقل اليهودي لا العلماني ولا الديني ما يضرب مفهوم العلمانية بالصميم.
يعيش العلمانيون بفهمهم المتناقض لما يتبنونه ويطبقونه فيعادون أو ينبذون أو يرفضون أويتحاشون أو يتعاملون مع الفلسطينيين داخل الكيان كأنهم غرباء أجانب عن وطنهم، وباعتبارهم درجة عاشرة بالتعامل والتشريعات ما يمثل عنصرية مناقضة كليًا للعلمانية التي يدعونها وما يمثل فوقية واستعلاء مناقضا أيضًا لذات الفكرة العلمانية بأي تعريف أردته.
العلمانيون في "إسرائيل" الذين تمتليء نفوسهم بالكراهية للآخر (غير اليهودي) ويتم التعبير عن ذلك بأشكال مختلفة ما بين القوة العسكرية الداهمة، الى الكراهة النفسية هم العلمانيون المزيّفون فحين أتجاور ولا أعترف، فلست بالعلماني ولست بالديمقراطي، فالعلمانية تشمل ولا تقصُر والديمقراطية تشمل ولا تقصُر على عكس القائم.
إذن هؤلاء الذين يرفضون سطوة الأحزاب الدينية مزيّفون بالحقيقة بل وهم كاذبون حين ينكرون حقوق الفلسطينيين بينهم، حتى إنك لا تجد فلسطينيًا واحدًا في مظاهراتهم ضد التشريعات القضائية لأنه سيكون كالخروف الأسود (منبوذ، غريب، مرفوض، معزول، موضع تهمة لهم) بينهم، فعزل العرب الفلسطينيون أنفسهم عن الشرخ القائم.
لو كان العلمانيون في داخل دولة الاحتلال يدركون معنى علمانيتهم لوقفوا بوضوح ضد الاحتلال العسكري الاحلالي، وضد العدوان وضد سلب الأرض وضد الفصل العنصري وضد القتل وضد النهب اليومي الذي تمارسه عصابات المستوطنين في فلسطين، ولكنهم في هذا الأمر مغيبون وكأنهم في عالم آخر، ولا علاقة لهم بتلك المنطقة من الناحية النظرية. وهم من الناحية العملية يشدّون على أيدي الاحتلال والقتل ويُسهمون في التشريع ذاته الذي يلفظ الفلسطينيين أصحاب البلاد سواء داخل الكيان السياسي الإسرائيلي، أو الكيان السياسي الفلسطيني في أرض فلسطين.
كيف تفهم علماني يقف مكتوف الأيدي أو يشاهد وهو لا مبالي، أو يبتسم من سماعه عن عمليات القتل المتواصلة يوميًا في الضفة وغزة، ولا يحرك ساكنًا. ( وأنا مالي)!؟
كيف يواءم "العلماني الإسرائيلي" بين الإدعاء والحقيقة وهو يشاهد استخدام القوة المفرطة لعساكره ومستوطنيه ضد العربي الفلسطيني على جانبي البرتقالة، بداعي الشبهة أوالشك وأحيانًا بدون، ولا يتفوه بكلمة! وأين العلماني الديمقراطي حين تحرق بيوت وسيارات وأشجار ومصاحف ومساجد في قرى فلسطينية مختلفة، وحين تسلب الأرض يوميا من أصحابها ولا رادع أوكلمة لا.
يقول الكاتب اليهودي الأميركي ألون بن مائير: (إن تجريد الفلسطينيين من كل ما يملكون وإضرام النار في عشرات المنازل والسيارات والتدمير الوحشي المقصود للممتلكات تحت أنظار الجنود الإسرائيليين الذين يعاينون ذلك بلامبالاة ورباطة جأش، هو سخرية من هذه القيم اليهودية التي يتظاهر المسؤولون الإسرائيليون بدعمها بشدة.) مضيفًا (نسوا بسهولة أن إسرائيل على مدى عقود تنتهك بانتظام هذه القيم من خلال التصرف بشكل غير إنساني ضد الفلسطينيين)
لا ديمقراطية ولا علمانية مع تعصب وفصل عنصري، ولا علمانية لا ديمقراطية مع احتلال شعب آخر ولا مع انكار الحقوق القومية المشروعة بتاتًا، ولا علمانية ولا ديمقراطية مع النظرة الدونية للآخر بمنطق السيد والعبد ما هو قائم من الطرفين المتنازعين اليوم في الدولة أي بين من يوصفون بالعلمانيين او يوصفون المتدينين.
من هم "المتدينون" في الكيان الصهيوني؟ هل نربطهم بفئات الحرديم والحسديم من ناحية مذهبية أم بمذاهب سياسية ذات مرجعية تناخية أسطورية؟ ومهما كان فإن فهم"التدين" هنا أو المصطلح الذي يطلق عليهم لا يستقيم بتاتًا، لأن التدين هو حالة خاصة بين الخالق والانسان ومن يستطيع أن يحكم على الظواهر الطقسية والعبادات ليصف إنسانا بأنه متدين من غير ذلك؟ من يفعل ذلك بالحقيقة هم عامة الناس الذين يربطون –في كل الأديان-المظاهر والطقوس بصفة التدين وفي الدين اليهودي بين الجلباب الأسود ربما والقبعة والشعر المجدل وأيام السبت ...الخ وغير ذلك، وفي مساحات أخرى يتم ربط التدين بمقدار التعصب للاحكام الشرائعية وقهر الآخر وهنا يكمن التطرف سواء في ذات المجتمع أو بينه وبين المجتمعات من المذاهب أو الأديان الأخرى.
ما أريد قوله أن الأحزاب الموصوفة أنها "متدينة" في إسرائيل لا يتفق وصفها مع حقيقة سلوكها ولا مع تعريف التدين بأنه فردي. وعلاقة العبد مع الرب لا شأن للمجموع (المجتمع) به.
وفي المقابل هل يُعدّ التطرف أو الفاشية أو العنصرية تدينًا؟ فإن وصفنا "العلمانيين" به وكذلك الأمر "المتدينيين" فإن المفهومين يذوبان في إطار واحد أي مفهوم الفاشية بالحقيقة وهو الأوسع ليضم مزيفي العلمانية ومزيفي التدين.
نعود ل"ألون بن مائير" وربطنا ما يقول ب"القيم اليهودية" كما يفهمها مقابل القيم اليهودية كما يفهمها متطرفو وفاشيو اليمين الموصوفين ب"المتدينين" إذ يقول : (تشمل هذه القيم اليهودية الاهتمام بالغير والتعاطف معهم وعدم إظهار اللآمبالاة أو بالأحرى “إعطاء الظهر” تجاه المحتاجين ومحبة الجيران والتسامح والرحمة وإلباس العراة والتمسك بالحق في العدالة وملكية الآخرين وتحرير المظلومين ومشاركة خبزك مع الجياع وإيواء المتشردين واحترام حق كل إنسان في الحياة. ....)! فهل من هذه القيم ما يجد له مكانا داخل منظومة "القيم اليهودية" لليمين؟ فيما الحقيقة أنك تستطيع أن تجد مئات الاقتباسات والأفعال التي تجعل من قيم القتل والنبذ والاحتقار للآخر هي حقيقة القيم المرعية عند هؤلاء.
بكل وضوح لا يهم العربي الفلسطيني مما يسمى إصلاح أو تدمير القضاء الإسرائيلي شيء، ففي الحالتين ولدى كلا الطرفين -اللذان يناقضان مسمّاهما العلماني والمتدين- ضمن المجتمع اوالخريطة السياسية الحزبية ذات النظرة الغيرية العنصرية للآخر (أي العربي الفلسطيني) والتي لا تختلف الا في نوعها أو شدتها، أو مقدار عاجليتها وأولويتها.