يُواصل الإسرائيليون التظاهرات ضد ما يُطلق عليه خطة "الإصلاح القضائي" والتي قام بتطبيقها رئيس وزراء حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، حيث تحد من سلطة المحكمة العليا وتُعطي الكنيست سلطات كبرى في اختيار القضاة، وتعتبرها المُعارضة تهديدًا للديمقراطية، إضافةً إلى إثارتها لقلق عدد من حلفاء "إسرائيل" أبرزهم الولايات المتحدة الأمريكية.
وكان لخطة "الإصلاح القضائي" عدد من الآثار السياسية، فحسب الكاتب والباحث السياسي د. سميح خلف، أشار إلى أنّه منذ إنشاء "إسرائيل" عارض "بن غوريون" استحداث دستور لـ"إسرائيل" واستعاض عن ذلك بوثيقة الاستقلال التي تحكم الدولة وحقوق مواطنيها ومبادئها، ومن ثم إنشاء المحكمة الدستورية العليا والتي تكون هي الجهة النافذة والرقابية على قرارات الحكومة أو السلطات التنفيذية والبرلمان، ومنذ ذلك الوقت تعمل "إسرائيل" بلا دستور الذي لابد أنّ يحدد حدود الدولة، وماهيتها دينية أو علمانية.
وأضاف خلف، في حديثٍ خاص بوكالة "خبر": "إذا ما تفحصنا طبيعة المجتمع الإسرائيلي فهي معقدة بطبيعتها، فاليهود الغربيين وهم العلمانيين الذين يُمسكون بزمام الاقتصاد، واليهود الشرقيين الذين يميلون للحالة التوراتية، وهم أكثر نسلًا أيّ "الحريديم المتدينين"، هم الأكثر في المجتمع الإسرائيلي، وبالتالي أتت الانتخابات بالفوز بالكنيست بالأغلبية على العلمانيين بكافة أشكالهم".
وأشار إلى أنَّ الائتلاف الحكومي بقيادة نتنياهو قد جمع كل المتطرفين التوراتيين وهم الأغلبية في المجتمع الإسرائيلي، ولذلك تم إقرار قانون الإصلاحات القضائية الذي يحوّل الدولة الإسرائيلية إلى دولة توراتية يهودية ينقرض فيها العلمانيين، مُبيّناً أنَّ هذا ربما يتماشى مع المتغيرات الإقليمية المدعومة من الغرب، ومن أمريكا بقطب شيعي وقطب سني وقطب يهودي توراتي، أيّ تأسيس المنطقة على أسس دينية، وإنّ عارضت أمريكا لفظياً التحول الديمقراطي إلى الجانب الديني التوراتي، فالتوازنات الثلاث مطلوبة للغرب والمتطرفين الإسرائيليين لا يرغبون أنّ تكون المحكمة الدستورية العليا كالسيف على رقابهم في تنفيذ البرنامج التوراتي على الأرض الفلسطينية، كالتوسع في الاستيطان والتغيير في طبيعة الديمغرافية في الضفة الغربية لما يسمى بـ"يهودا والسامرة"، والقدس.
وأوضح أنّه في هذا الجانب فإنَّ قانون القومية الذي تم صياغته في الكنيست ومبدأ المساواة غير معمول به بين اليهود الغربيين والشرقيين والفلسطينيين العرب والدروز، مُنوّهاً إلى أنّ هناك تفاوتًا كبيرًا في التزامات الدولة الحقوق والمساواة والواجبات والالتزامات.
وأكّد خلف، على أنَّ الانقسام حادث في المجتمع الإسرائيلي، فكانت المحكمة الدستورية العليا هي القابضة والحاكمة بقرارات الحكومة والبرلمان، ولذلك يعتبر وجود المحكمة الدستورية العليا بطبيعتها يُشكل خطرًا على البرنامج التوراتي المستقبلي، مُوضحاً أنَّ هذا لا يعني أنّ تلك الأحداث ستُحدث حربًا أهلية فاصلة في المجتمع الإسرائيلي، لأنهم جميعًا أتوا إلى تلك الأرض بغطاء توراتي ونهج اقتصادي ديمقراطي، وجميعهم يتفقون على بقاء دولة "إسرائيل" وتقليص الوطنية الفلسطينية بحسب رؤية العلمانيين إلى أضعف حال، أما المتدينين فهم لا يجدون مستقبل للوطنية الفلسطينية ولا يُحبذون، وربما يعود الجميع للصندوق بائتلاف مرشحين علمانيين وائتلاف متطرفين مرة أخرى.
بدوره، ذكر الباحث في مركز التخطيط الفلسطيني بغزة، د. خالد شعبان، أنّه سابقًا كان هناك العديد من التظاهرات في "إسرائيل"، أسفرت عن قتل بعض المتظاهرين وانتهت الإشكالية، ففي فترة ثمانينيات القرن الماضي قُتل أحد اليساريين ثم هدأت الأوضاع، ثم قضية اغتيال رابين، مُشيراً إلى أنَّ خطة "الإصلاح القضائي" ليست بالجديدة حيث تم الإعداد لها منذ العام 2005، بهدف الحد من هيمنة محكمة العدل العليا في "إسرائيل" على القرارات، حيث وجّه اليمين الديني بشكل أساسي اتهامات هذه المحكمة بأنها هيئة يسارية.
وبيّن شعبان، في حديثه لوكالة "خبر"، أنَّ اليمين الديني منذ العام 2005 حاول تغيير بعض القوانين الأساسية والتي تؤدي بالنهاية إلى وجود الدولة الدينية، وهي قضية أصبح لها الآن مؤشرات متمثلة بقضية المظاهرات والدعوات إلى إنشاء دولتين في "إسرائيل"، دولة للمستوطنين تحكمها التوراة، ودولة لليساريين تنعم بالديمقراطية، وهو نوع من الدلالات التي قد تؤدي إلى تقسيم "إسرائيل" للمتدينين والعلمانيين، لافتاً إلى أنّ قضية الشرخ في "إسرائيل" بين متدينين وعلمانيين ويساريين ويمينيين وعرب ويهود موجودة منذ سنوات، فـ"إسرائيل" لم تنعم بالهدوء، بل هناك استمرار دائم في عملية الشرخ بين مكونات المجتمع.
واستبعد أنَّ تتحول "إسرائيل" إلى دولة دكتاتورية استبدادية، كون الدستور غير مرن ومن الممكن إيجاد حكومة جديدة تقوم بإلغاء كافة القوانين التي أقرها الكنيست الحالي، مُضيفاً: "اليمين لم يأخذ دوره في الاحتجاجات، فـ"إسرائيل" عمليًا تعيش حالة انقسام أصبحت حقيقة واقعة في المجتمع الإسرائيلي، وهناك أصوات من وزراء "الليكود" تُطالب بطرد الصهيونية الدينية من الحكومة".
وحول المستقبل السياسي لنتنياهو وحزب "الليكود"، قال خلف: "إنَّ إسرائيل وسلطاتها التشريعية والتنفيذية، لا يُمكن أنّ تكون منفصلة عن المرجعيات الصهيونية في العالم، وخاصة أمريكا، والتي تُعتبر هي المُنظرة الأساسية لوجود واستمرار "إسرائيل"، وهي القوة التي تضغط على حكومات العالم لدعم إسرائيل".
وأشار إلى أنَّ هناك خطوطًا حمراء تُحددها تلك القوى، فعلى سبيل المثال ما حدث لرئيس الوزراء الأسبق إسحاق رابين عندما قرر إعطاء شبه كيان أو دولة، أو ما بين الدولة والحكم الذاتي، إضافةً إلى نهاية أرئيل شارون بعد انسحابه من قطاع غزّة، مُبيّناً أنَّ ما يحدث في "إسرائيل" لا يُمكن السماح له بأنّ يتجاوز الخطوط الحمراء للوجود والدولة، وإضفاء الحالة الديمقراطية على "المجتمع الإسرائيلي".
وأكمل: "عندما أتى المتطرفين التوراتيين إلى قيادة "إسرائيل" أتوا بائتلاف وحالة ديمقراطية وانتخابات، وهذا يُشير إلى أنّ اليهود الشرقيين قد يسيطرون على مقاليد السلطة بكثرة النسل والمدارس الدينية، ويُمكن أنّ ينتقل القرار السياسي والأمني من تل أبيب إلى المستوطنات الكبرى مثل "بيت إيل" وغيرها وهذا ما يخشاه العلمانيين".
كما أوضح شعبان، أنَّ نتنياهو بحاجة لتلك القوانين بهدف التهرب من السجن كونه متهماً بقضايا رشوة وفساد، حيث لجأ لتلك الإصلاحات القضائية من أجل عدم ضمان دخوله للسجن وعودة أرييه درعي للائتلاف الحاكم، مُردفاً: "بعد تمرير التشريعات في الكنيست يوجد إشكالية كبيرة فهناك تهديدات من قبل الصهيونية الدينية ووزير القضاء بانسحاب بعض اليمينيين من الائتلاف وبالتالي انهيار الحكومة، فنتنياهو لم يجد أفضل من هذا الائتلاف في تمرير مشاريع القوانين التي تؤدي بالنهاية إلى براءته وعدم دخوله للسجن".
وأكّد على أنَّ تلك الإشكالية ستظهر بعد حوالي 4 شهور عقب توالي الأزمات مع استمرار فرض بعض التشريعات في عملية الإصلاح القضائي، حيث سينسحب بعضهم في النهاية وسيعارض تلك الخطوات، فالتأثيرات على المدى البعيد لها نتائج سلبية سواء على نتنياهو أو على حزب "الليكود"، إلا أنّه آنيًا تسير الأمور وفق ما يراه نتنياهو.
وفيما يتعلق باستنكاف عدد من جنود الاحتياط وسلاح الجو، نوّه خلف، إلى أنَّ "إسرائيل" تعتمد في استعداداتها الحربية على قوات الاحتياط التي تصل إلى حوالي (80%) من الجهد الحربي، وبالتالي استنكاف الآلاف عن أداء الخدمة يُقلص من فاعلية الجيش وديناميكية التحرك الميداني، أو في غرفة العمليات، وخاصة سلاح الجو وهو القوة الضاربة لـ"إسرائيل".
ونبّه إلى أنّ تفكك قوات الاحتياط سيؤثر على قدرة "إسرائيل" في مواجهة المقاومة الفلسطينية بغزّة والضفة والتحديات الإقليمية كإيران وحزب الله، وساحات أخرى، مُستكملاً: "قيادة القوات الأمنية نقلت تقارير لنتنياهو تُشكك خلالها بقدرة الجيش والأجهزة الأمنية على مواجهة التحديات في الداخل".
كما اتفق شعبان، إلى حدٍ كبير مع خلف، قائلاً: "إنَّ الإشكالية تتمثل في جنود الاحتياط، لكِن الخدمة في الجيش الرسمي لا توجد أي تأثيرات عليها، خاصةً أنَّ الاحتياط فترة خدمته في جيش الاحتلال محدودة يتدرب من خلالها على الأسلحة الحديثة"، مُردفاً: "في حال تعرضت "إسرائيل" لهجوم، فإنَّ كافة الاحتجاجات ستنتهي، وبالتالي سيلجأ نتنياهو للمدخل الأمني من خلال الضرب في شمال الأراضي المحتلة تجاه لبنان أو الجنوب أو إيران، والذي سيكون امتحان للجنود الإسرائيليين".
ورأى أنَّ تلك التداعيات ستلمسها "إسرائيل" مستقبلًا وليس آنيًا، فحسب نتنياهو الذي قد يُغامر بتوجيه ضربة ما من عدمه، فالإشكالية تتعلق بالعلاقة مع الولايات المتحدة واليهود هناك والاتحاد الأوروبي، وليس بالجنود.
وبشأن الآثار الاقتصادية للتظاهرات في "إسرائيل" على إثر خطة "الإصلاح القضائي"، قال أستاذ العلوم المالية والاقتصادية في كلية الدراسات العليا بالجامعة العربية الأمريكية برام الله، د. نصر عبد الكريم: "إنَّ التأثير على سعر صرف الشيكل مقابل الدولار الأمريكي يعتمد على التطورات المتلاحقة حتى شهر نوفمبر المقبل"، مُضيفاً: "في حال فُتح أفق للتسوية بين الأطراف المتصارعة ووصلوا لمنتصف طريق وتم الاتفاق على التأجيل أو إلغاء جزء من تلك التعديلات، فحينها ممكن أنّ يستعيد الشيكل مكانته، وقد يعود لما كان عليه بالظرف الطبيعي بسعر يتراوح ما بين 3.40 لـ3.45 شيكل للدولار، والعكس صحيح، أما في حال لم يتم التوصل لاتفاق ونفذت كافة المحاولات واستكملت الخطة مشوارها، فمن الممكن أنّ تستمر الاحتجاجات بشكل أوسع ما يؤدي لتعطل المجالات الاقتصادية، وبالتالي هروب ونزوح العديد من الاستثمارات والطلب على العملات الصعبة على حساب الشيكل، وبالتالي يستمر الشيكل بالضعف".
وأردف عبد الكريم، في حديثه لوكالة "خبر": "التراجع في الشيكل قد حدث فعليًا، وقد بلغ مداه، ومن الممكن أنّ يتراجع كثيرًا لكِن ليس بشكل حاد"، مُتابعاً: "التأثيرات السياسية على العملة قد وصلت إلى المدى الممكن صرفه بقيمة 3.75 شيكل للدولار، فما يُحرك الدولار مقابل الشيكل هو الأزمة السياسية داخل "إسرائيل"، مُعللًا ذلك بأنّ الاحتياط في الدولار الأمريكي قد وصل لنهاية المشوار في رفع سعر الفائدة، وبالتالي السياسة النقدية الأمريكية لم تعد ذات تأثير في دعم الدولار، فعلى مستوى العالم الدولار ضعفت قيمته بينما على مستوى الشيكل ارتفعت قيمته، ما يُعطي دليل قوي أنَّ الأزمة السياسية هي العامل الأكبر لتذبذب سعر العملة.
وحول تحذيرات محافظ بنك "إسرائيل" السابق يعقوب فرانكل، أشار إلى أنَّ هناك تراجعًا في حجم الاستثمارات في شركات التكنولوجيا المتقدمة تُقدر بعشرات مليارات الشواكل، وأنَّ هناك نزوح في ودائع الجهاز المصرفي والاستثمارات في بورصة تل أبيب، وبالتالي أدى ذلك إلى انخفاض البورصة خلال الأسبوع الماضي من 3-4%، مُبيّناً أنَّ هناك تعطل ولو بشكل جزئي في الحياة الاقتصادية بـ"إسرائيل"، وفي حال استمرت الاحتجاجات وتطورت، فقد نرى تعطلًا أكبر وبالتالي التأثير على الإنتاجية في الاقتصاد الإسرائيلي ومعدلات النمو فيه وقدرته على التصدير، ما يعني التأثير أيضاً على توفر فرص العمل.
واستطرد: "هناك تأثيرات دولية، ففي حال استمرت حكومة نتنياهو في الخطة سيكون لذلك تأثير على أمريكا وأوروبا، من حيث الدعم والعلاقات الاقتصادية مع "إسرائيل"، وهو ما حذر منه محافظ بنك "إسرائيل" السابق بشأن التصنيف الائتماني، فاحتمال أن تقوم شركة ستانر بور العالمية بتخفيض تصنيف "إسرائيل"، وهو ما سيجلب متاعب اقتصادية إضافية كبيرة، وهي تحذيرات اتفق عليها عدد من خبراء الاقتصاد، إضافةً إلى تحذيرات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، رغم أنّ الاقتصاد الإسرائيلي يُعتبر من أقوى الاقتصاديات في العالم".
وفيما يتعلق بتأثيراته على الاقتصاد الفلسطيني، قال عبد الكريم: "إنّه يعتمد على تطورات الأحداث، ففي حال ضعفت قيمة الشيكل وارتفعت قيمة الدولار، فإنَّ ذلك سيؤدي إلى التضخم، خاصةً أنّ غالبية السلع في الأراضي الفلسطينية مستوردة من الخارج، وبالتالي يتم دفع قيمتها بالدولار، وهو ما سيؤدي لارتفاع الأسعار ، لكِن ليس بالشكل الملحوظ".
وأكمل: "أن هذا الضعف قد يُضيف أعباء جديدة على المقترضين بالدولار، خاصةً الذين يتقاضون رواتبهم بالشيكل، وبالتالي تكون حاجتهم للدولار أكثر في حال ارتفعت قيمته مقابل الشيكل، فيستنفذ جزء كبير من دخلهم المتاح للاستهلاك، ما يؤدي إلى تراجع القوة الشرائية، خاصةً أنَّ معدلات الدخل الشهري تكاد تكفي الاحتياجات الأساسية، إضافةً إلى أنَّ موظفي السلطة يتقاضون رواتب بنسبة 80%، فتلك الأعباء الاقتصادية نتيجة للالتزامات المترتبة على الكثير من المقترضين، ما يدفع بهم إلى خدمة الدين خاصةً أنّهم قد اقترضوا بالدولار وآلية السداد بالشيكل.
وتطرّق إلى مدى تأثير تلك الأزمة على العمال الفلسطينيين في الداخل المحتل، ففي حال تراجع الاقتصاد الإسرائيلي وعدم وجود فرص عمل، سيؤدي ذلك لضعف قدرة العمال على العمل بنفس الأجر والعدد، ما يؤثر على القوة العاملة الفلسطينية بالداخل المحتل.
وختم عبد الكريم حديثه، بالإشارة إلى تأثير التجارة الخارجية، فالجانب الفلسطيني يقوم بالاستيراد من خلال الاحتلال، ففي حال كانت قيمة الدولار مرتفعة يؤدي ذلك إلى تضخم إضافي، وبالتالي رفع سعر بعض السلع، مُوضحاً أنَّ وجود عصيان مدني داخل "إسرائيل" قد يؤدي إلى تطورات وتأثيرات أخرى قد تتطور لنزاعات أهلية دموية وهو مستبعد.