منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحوّلت غزة من ساحة مواجهة إلى ميدان مفتوح لإبادة صحية بطيئة، تنفَّذ تدريجيًا أمام سمع العالم وبصره، لم تُستهدف المستشفيات بالقصف فقط، بل تمّ تفكيك المنظومة الصحية على مراحل: تدمير البنية، تجويع المرضى، تصفية الكوادر واعتقالها، وتجريم الإسعاف نفسه، لم يكن ما جرى ظرفًا عرضيًا أو فوضى حرب، إنما سياسة محسوبة وهدفًا مباشرًا يُقصَد إسقاطه.
ما حدث من إبادة للقطاع الصحي هو حلقة ضمن سياسة منظمة لتجريف الحق في الحياة حيث تُركت المستشفيات تنهار تدريجيًا وسط الحصار، وتمّت ملاحقة طواقمها وقطع الامدادات عنها، وفي ظل هذا الانهيار الممنهج لا تكفي الإحصائيات لفهم حجم الجريمة بل يجب الاستماع إلى الشهادات التي تكشف عن وجوه فقدت حقها في النجاة، وأصوات خُنقت وسط الرماد، هنا كل سرير طبيّ صار شاهدًا، وكل مريضٍ تحوّل إلى ملف إدانة حيّ في جريمة ضد الحياة تستحق أن تُفتح لها أبواب المساءلة.
الطبيب منير الشخريت، استشاري الطوارئ في مجمع الشفاء الطبي، لم يتحدث كمراقب، بل كشاهد حي على واحدة من أسوأ لحظات الانهيار الصحي في تاريخ غزة. منذ اللحظة الأولى للعدوان، كان عليه أن يشرف على غرف العمليات تحت القصف، بلا كهرباء مستقرة، أو أدوات تعقيم، أو حتى ضمانة للبقاء حيًا أثناء عمله، ويروي: “منذ اللحظة التي دوّى فيها أول انفجار، علمت أننا لم نُستدعَ كأطباء لمعالجة المرضى، بل صرنا نحن المرضى في جسد يحتضر… كنا نرقب الموت مقبلًا علينا من كل زاوية، ونعلم أنه ليس لنا إلا أن نحاول، وإن كنا نداوي بالمستحيل.” لم تكن الانتهاكات مقتصرة على القصف، كذلك وصلت إلى التصفية الأخلاقية للمهنة، فالقسم الطبي، كما يصفه، “تحول إلى غرفة انتظار للموت، لا إلى غرفة إنقاذ”.
يتذكر بحسرة كيف كانوا يستقبلون عشرات المصابين وهم يعلمون أن أمل نجاتهم ضعيف لغياب أي قدرة حقيقية على التدخل الطبي، ويروي أن بعض الأيام مرت عليهم بلا قطرة ماء لغسل الجروح، أو حقنة واحدة لتخفيف الألم، في الثاني عشر من نوفمبر 2023 حين اجتاحت قوات الاحتلال المجمع الطبي كان مبنى الجراحات التخصصي يغصّ بالمرضى والنازحين، وقف الجميع في طوابير تفتيش واحدة: أطباء، نساء، أطفال، مرضى، لا أحد نجا من المهانة، يسأله الجنود: هل عالجت مقاومين أو رأيت أسرى إسرائيليين؟ فيرد، وعيناه لا تزالان مشبعتين بوجع التجربة: "أنا لا أُسعف الوجوه، بل أُسعف الجروح… حين ينزف الجسد، لا يسأل الطبيب عن هوية الدم، بل يركض كي لا يطفئه الموت"
بعد أسبوع من الحصار ومنع دخول الدواء أو الطعام، توفي نحو ثلاثون مصابًا في قسم الطوارئ، في مشهد يصفه الشخريت بأنه "وصمة في جبين الطب والإنسانية" لم تتوقف معاناته بخروجه، إذ تم اعتقاله أثناء مروره على حاجز نتساريم، حيث ضُرب، وأُهين، وسُجن بلا تهمة. "كانوا يكررون الأسئلة وكأنهم يبحثون عن اعتراف من فراغ. مشيت كيلومترات حافيًا، أتلقى الركلات والإهانة" أُفرج عنه في أبريل 2024، ليكتشف أن زملاءه من مستشفى ناصر تعرضوا لاعتقال مماثل، قال في نهاية شهادته بصوت نقيض للموت الذي عاشه: "ما جرى لم يكن هو خطة عسكرية لإزالة المعنى من مهنة الطب، نحن أمام جريمة مكتملة الأركان تتطلب مساءلة دولية، الصمت شراكة، والغضّ طرف خيانة للإنسانية.".
لم يكن الدكتور الشخريت وحده، فخلال اجتياح مستشفى كمال عدوان أواخر ديسمبر 2024، اعتُقل الدكتور حسام أبو صفية مدير المستشفى بعد رفضه مغادرة المبنى دون مرضاه، منذ ذلك الحين لا تملك عائلته أية معلومات عن مصيره.
وبحسب مؤسسات حقوقية محلية ودولية، تعرض عشرات من الأطباء والممرضين إلى الاعتقال، والاختفاء القسري، والتعذيب في السجون الإسرائيلية وترفض إدارة السجون بالإدلاء عن أوضاعهم ومصيرهم ويُمنع ذويهم من التواصل معهم فقط بسبب أدائهم واجبهم الإنساني.
جميلة عزام، ممرضة في السادسة والعشرين من عمرها، لم تنقطع عن عملها منذ بداية العدوان رغم الاجتياحات المتكررة التي حولت شمال القطاع إلى أرض مستباحة، منذ 8 أكتوبر 2024 عاش مستشفى كمال عدوان حصارًا مستمرًا، وغارات شبه يومية، انتهت بقصف عشوائي للمبنى وساحته يوم الجمعة 27 ديسمبر، تصف جميلة تلك الليلة بأنها “ليلة جنون”، عند منتصف الليل بدأت الغارات على محيط المستشفى ثم تسللت الانفجارات إلى ساحاته وأروقته " كنا نركض، لا نحتمي فقط، بل نحاول تهدئة المرضى، ونحن أنفسنا نرتجف”، تقول.
في السادسة صباحًا، ألقت طائرات كواد كابتر أوامر صوتية بالإخلاء، أُبلغ الطبيب حسام أبو صفية " اُعتقل لاحقاً"، مدير المستشفى أن الاحتلال يعتزم تجريف محيط المبنى لكن ما حدث أن الآليات تمركزت مباشرة أمام الباب الرئيسي في رسالة واضحة: أنتم الهدف، جاءت التعليمات بالإخلاء الفوري دون استثناء للمرضى أو الطواقم، عُرض على النساء البقاء وحدهن بعد إجبار الرجال على المغادرة لكن جميلة وزميلاتها رفضن “كنا ندرك أن نيتهم ليست إنسانية.”
عند وصولهم إلى مدرسة الفاخورة في جباليا بدأ فصل جديد من الانتهاك، إذ أُجبرت الطواقم النسائية على خلع الحجاب، وتعرضن للضرب، والاعتداء، والتهديد بأسلحة مصوّبة إلى الظهر. “
جميلة التي فقدت زوجها أحد الكوادر الطبية في مستشفى كمال عدوان أثناء عملية الاقتحام، لم تعلم مصيره حتى الآن، وتؤكد "منذ ذلك اليوم وأنا أبحث عنه في سجلات الأسرى، لا توجد أي معلومة عن اختفاءه أو حتى سبب اعتقاله".
أسماء ناصر (22 عامًا) من بيت حانون، نجت من تحت ركام بيت عائلتها بعد قصفها منتصف ديسمبر 2024، لكنها لم تنجُ من جنون المعاناة: دفنت أفرادًا من عائلتها بيدها ثم حملت ابن شقيقتها المصاب اصابة بالغة في رأسه إلى كمال عدوان المستشفى الوحيد الباقي ولم أجد هناك سرير فارغ حتى أضعه عليه من كثرة أعداد المصابين حتى الدواء لم يكن متوفراً له، أمضت أسبوعين تعتني به دون أن تعالج نفسها فقد أصيبت أيضاً برضوض في ظهرها، فتصدّر المصابين حسب الأولوية ولم تأخذ حقها في العلاج لقلة المواد الطبية ونقص في الطواقم الطبية المتواجدة في المشفى حينها، وفي أواخر الشهر ذاته داهمت القوات الإسرائيلية المكان مرة أخرى، وطردوا النازحين والمرافقين تاركين المصابين ينزفون، أسماء تم الاعتداء عليها، وخُلِع حجابها بالقوة، وتعرضت للضرب والإهانة.
فوزية مقاط، مريضة ستينية، عانت من الذئبة الحمراء والفشل الكلوي وجُرّدت من جلسات غسيل الكلى وحرمت من دوائها المعتاد.، تقول بأسى بالغ: "أنا لا أبحث عن الشفاء الكامل، وفرصة للعيش الكريم، أن أتنفس بلا ألم، وأستيقظ دون أن أنتظر الموت على وسادة من الإسفنج البالي" توقف العلاج أدى إلى تدهور حالتها الصحية: تليف رئوي، ضمور في الكلى، تشوهات في القلب " الدواء الذي كنت أشتريه بدولارين صار إن وجد بأكثر من عشرين، وأنا ليس لدي أي مصدر دخل يجعلني أشتري العلاج بأسعار فلكية وإن وجد".
صابرة الزعانين، امرأة خمسينية أصيبت بسرطان الثدي قبل ثلاثة سنوات، خضعت لاستئصال الثدي الأيمن لكن الحرب منعتها من السفر لتكملة العلاج الكيماوي مما سمح للمرض بالعودة والتفشي في جسدها وتورم الثدي المستأصل، تقول بوجه شاحب : " السرطان لا يقتلني بقدر ما تقتلني نظرات اليأس من حولي، لم يبقَ لي سوى العلاج البديل الذي لا يخفف من وجهي شيئاً ولا أستطيع وصفه، وينتشر في جميع جسدي " تعاني أيضًا من السكري، وغياب الأنسولين يعرضها للغيبوبة بشكل متكرر .
الطبيب صبحي سكيك، المدير العام لمستشفى الصداقة التركي الفلسطيني، والذي كان يُعدّ المركز الوحيد في غزة المتخصص بعلاج مرضى السرطان، قال جملة واحدة تختزل مأساة آلاف المرضى: "نحن لا نتحدث عن نقص بل خنق ممنهج بوعي عسكري واستراتيجية صامتة لإبادة الحياة الطبية في القطاع" منذ بداية العدوان، حُرم المرضى من جلساتهم العلاجية الكيماوية والإشعاعية، ويضيف: “مريض السرطان لا يستطيع الانتظار، والجلسة التي تُؤجل يومًا قد تعني تفشي الورم في أنحاء جسده لكننا لم نعد نملك دواءً، ولا أجهزة، ولا حتى مقاعد لاستقبال المرضى".
في مارس/آذار 2024، تعرّض المستشفى لقصف مباشر أدى إلى تدميره بالكامل ما ترك أكثر من 13 ألف مريض بينهم نساء وأطفال دون نقطة علاج واحدة، تم تدمير المبنى، وخزانات الأدوية، وغرف الأشعة، ومختبر التشخيص، وأضاف سكيك: "لم يكن الأمر مجرد قصف لمبنى لقد دمّروا فكرة العلاج ذاتها، دمّروا الأمل، خرج المرضى منه حفاة، بعضهم يجرّ أنبوبًا طبّيًا، بعضهم لم يكمل جرعته.”
ولم يكن مستشفى الصداقة هو الضحية الوحيدة، ففي 15 مايو/أيار 2025، خرج مستشفى غزة الأوروبي عن الخدمة بعد ضربات جوية متكررة أدّت إلى شلل تام في بنيته التحتية "ما حدث في الأوروبي لم يكن صدفة، كان ضربة مُكملة لإغلاق كل أبواب الرعاية، ليس فقط أمام المرضى، بل أمام المجتمع كله"، قال سكيك.
ووفق وزارة الصحة، فإن 64% من أدوية الأورام باتت غير متوفرة تمامًا، فيما يقبع الآلاف بانتظار فرصة للخروج لتلقي العلاج "تخيل مريض سرطان لا يجد حتى مُسكّنًا بسيطًا أو مضادًا حيويًا لعلاج العدوى، لا كهرباء لتشغيل الأجهزة، لا طواقم طبية كافية، ولا ماء صالح في المستشفيات المؤقتة، كيف يمكن لنا أن نحارب السرطان ونحن نحارب من أجل نقطة ماء؟"، يختتم سكيك.
محمود بصل، الناطق الرسمي باسم جهاز الدفاع المدني في قطاع غزة، لم يروِ فقط قصة انهيار جهازه بل كشف عن الوجه الأكثر قسوة في استهداف المنظومة الإنسانية، بصوت مثقل بالتعب قال: "منذ اليوم الأول للحرب لم نكن طواقم إنقاذ إنما أهداف مشروعة وفق تصنيف الاحتلال، كأن وجودنا بحد ذاته جريمة"
بحسب بصل، فإن الاحتلال دمّر ما يقارب 75% من مقار الدفاع المدني، وقصف أكثر من 15 مبنى من أصل 20 تابعة للجهاز، ويضيف: "لم تبقَ لدينا سوى 7 سيارات إسعاف مهترئة بعضها يعود للثمانينات والتسعينات، تعمل بأعجوبة على فتات ما نملكه من وقود" ليس هذا فحسب، كذلك تم قصف ورشات الصيانة، ومنع دخول قطع الغيار " اليوم حين يُبلغنا أحد بأن هناك عائلة تحت الركام، نحن نعلم أن فرص إنقاذهم شبه معدومة، ليس لغياب الإرادة بل لأننا ببساطة لا نملك وسيلة للوصول إليهم"
ويحذر بصل من أن العمل الإغاثي لم يُشلّ فقط أيضاً أصبح تحت تهديد مستمر: "في كل مرة نُحاول فيها إنقاذ أحد، نعلم أننا قد نُستهدف في الموقع ذاته حتى قوارب الإنقاذ البسيطة، والخوذات، كل شيء صار هدفًا" يصف ما يحدث بأنه “مذبحة بطيئة”، ويقول: "الاحتلال الإسرائيلي يريد إذلالنا قبل قتلنا، اليوم يُجبر كبار السن على الوقوف في طوابير طويلة داخل ‘أقفاص’ لتلقي المساعدات بينما تُباع حمولات كاملة من المساعدات في السوق السوداء تحت سمع وبصر الجميع"
وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن 94% من مستشفيات غزة الـ36 تضررت أو دُمّرت بالكامل مع بقاء 19 فقط تعمل جزئيًا في أوضاع طوارئ فقط، تم رصد 686 هجومًا مباشرًا على المنشآت الصحية حتى مايو 2025، شملت 122 منشأة و180 سيارة إسعاف، وقُتل أكثر من 1,000 من الكوادر الطبية، وتُرك أكثر من 14,000 مريض دون إجلاء طبي، رُفض منهم 61% لدواعٍ “أمنية”.
وتوضح رندا قدادة، الباحثة المتخصصة في القانون الدولي الإنساني، أن ما حدث في غزة منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى منتصف 2025 يمثل وفق معيار القانون الدولي سياسة ممنهجة لتفكيك الجهاز الصحي، وتجريد المدنيين من حقهم في الرعاية الطبية، وإفشال أي جهود إنسانية محتملة للإغاثة أو الإنقاذ، تقول: "نحن لا نتحدث عن قصف مستشفى واحد في ظروف اشتباك بل عن نمط متكرر ومنتشر وموثق: تدمير 94% من منشآت الصحة، قصف 180 سيارة إسعاف، اغتيال أو اعتقال أكثر من ألف من الكوادر الصحية، وهذا سلوك ممنهج يحمل جميع مؤشرات الإبادة الصحية"
وتُشدّد قدادة على أن القانون الدولي خصوصًا اتفاقيات جنيف الرابعة لعام 1949 يمنح حماية مطلقة للمرافق الصحية والطواقم الطبية والمرضى حتى في حال وجود قتال نشط، وتضيف: "المادة 18 من اتفاقية جنيف الرابعة تنص بشكل صريح على أن المستشفيات المدنية يجب احترامها وحمايتها في جميع الأحوال، والمادة 19 تمنع أي عمل عدائي ضدها إلا إذا استُخدمت لأغراض عسكرية، وهو ما لم يتم إثباته في أي حالة موثقة في غزة"
وتلفت إلى أن ضرب منظومة العمل الإنساني الصحي والذي أدى إلى شلل العمل الإنساني الصحي، ومنع دخول الأدوية، وعرقلة الإجلاء الطبي، وتخريب منظومات الطوارئ والدفاع المدني، تمثل في مجموعها جريمة مركّبة هذا بحسب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وخاصة المادة(8)من نظام روما الأساسي حيث اعتبرت الهجوم المتعمد ضد المستشفيات وأماكن تجمع المرضى والجرحى والتي لاتوجد فيها أهداف عسكرية جريمة حرب ، وبحسب التقرير الذي أصدرته لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة والذي يتهم إسرائيل بتنفيذ "سياسة منسقة" لتدمير نظام الرعاية الصحية في غزة، واصفة ذلك بأنه "جرائم حرب" و"جريمة ضد الإنسانية": "نحن أمام انتهاك مزدوج، إذ يتم أولًا تفكيك البنية الصحية عبر القصف ثم يُمنع المجتمع من إعادة تشغيلها عبر الحصار والتحكم في الإمدادات، والنتيجة هي حرمان آلاف الجرحى والمرضى من أبسط حقوقهم في الحياة ما يُشكّل قانونًا نوعًا من المعاملة اللاإنسانية المحظورة، ويمثل جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية في آن واحد."
وبيّنت أن إعلان شخصيات مدنية مؤخراً مثل: الناطق باسم الدفاع المدني ‘إرهابيين’، وملاحقتهم لأجل تصفيتهم لمجرد قيامهم بمهام إنسانية بحتة هو خرق صارخ للبروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف الذي يعتبر المسعف محايدًا ويُحظر استهدافه.
وأمام هذا الكم من الشهادات، والانتهاكات، والدمار الممنهج الذي طال المستشفيات والطواقم الصحية والمرضى على حد سواء، تتضح صورة لا تقبل اللبس: ما جرى في غزة لا يمكن وصفه إلا بأنه جريمة منظمة تمس صميم القانون الدولي الإنساني، وتستدعي تحركًا فوريًا من المؤسسات الدولية والقانونية والإنسانية. لذلك فإن هذا التقرير يدعو إلى سلسلة من المطالب العاجلة التي تمثل الحد الأدنى من الاستجابة الأخلاقية والحقوقية لهذا الانهيار الكارثي.
أولًا، لا بد من فتح تحقيق دولي عاجل وشفاف في كل ما تعرّض له القطاع الصحي في غزة، بما يشمل استهداف المستشفيات، اغتيال الأطباء، منع دخول الأدوية، وعرقلة الإخلاء الطبي، يجب أن يكون هذا التحقيق تحت مظلة مجلس حقوق الإنسان ومحكمة الجنايات الدولية، ثانيًا ينبغي فرض حماية دولية فورية لكل المنشآت الصحية والطواقم العاملة فيها من خلال قرارات ملزمة من مجلس الأمن، وتفعيل آلية مراقبة مستقلة على الأرض تمنع تكرار الانتهاكات، ثالثًا يجب السماح العاجل وغير المشروط بإجلاء المرضى من غزة خصوصًا المصابين بأمراض مزمنة أو أورام أو حالات حرجة مع رفع القيود الأمنية التي تُستخدم كأداة عقاب جماعي.
رابعًا يُطالب التقرير المجتمع الدولي والمنظمات الطبية الكبرى بضمان تدفق المساعدات الطبية والوقود والمعدات إلى مستشفيات غزة بإشراف مباشر من منظمات محايدة؛ لمنع التلاعب أو القرصنة أو المتاجرة بها، خامسًا لا يمكن القفز على ضرورة محاسبة المسؤولين الإسرائيليين الذين أعطوا الأوامر أو نفذوا عمليات القصف والحصار والتجويع الطبي، باعتبارهم مسؤولين عن انتهاكات ترتقي إلى مستوى جرائم الحرب، سادسًا، يجب أن تبادر الدول المانحة وهيئات الأمم المتحدة إلى وضع خطة شاملة لإعادة بناء القطاع الصحي في غزة وفق معايير الاستجابة السريعة في المناطق المنكوبة، سابعًا ضرورة الضغط على سلطات الاحتلال للإفراج الفوري عن الأسرى من الكوادر الطبية، وضمان حمايتهم من التعذيب وسوء المعاملة باعتبارهم عاملين إنسانيين يتمتعون بحماية القانون الدولي كما يجب تمكين الصليب الأحمر من زيارتهم فورًا وتوثيق أوضاعهم القانونية والصحية داخل المعتقلات.
إن ترك هذا المشهد دون محاسبة هي سابقة خطيرة تُشرعن استهداف المستشفيات في النزاعات المقبلة، والصمت الدولي على هذه الجرائم خيانة واضحة لجوهر الإنسانية، وجريمة إضافية في حد ذاته.