فاجأ الرئيس محمود عباس الكثير من المراقبين والمتابعين، ليس بحضوره فقط اجتماع الأمناء العامين الذي انعقد في مدينة العلمين المصرية، أول من أمس، ولكن أيضاً بترؤسه الاجتماع، وحضور مناقشاته، إلى أن انفض، وذلك تأكيداً على إنجاح ذلك اللقاء، الذي كان هو من دعا إليه شخصياً، وذلك على أثر اجتياح قوات الاحتلال الإسرائيلية مدينة ومخيم جنين مطلع شهر تموز الماضي.
ومجرد انعقاد الاجتماع، يعني الشيء الكثير، ذلك أنه يعيد إحياء أهم ملف داخلي فلسطيني، وهو ملف الوحدة الوطنية، وإنهاء الانقسام، والأمر اللافت أن الاجتماع جاء هذه المرة بمبادرة ذاتية، أي دون وساطة أي شقيق عربي، لا مصر، ولا الجزائر، ولا حتى قطر، وجاء بعد أن تشكلت في إسرائيل أكثر حكوماتها تطرفاً منذ نشأتها، وبعد أن أظهرت تلك الحكومة برنامجها الفاشي تجاه الحقوق بل والحياة الفلسطينية، ورغم أنه قد مرت أسابيع ما بين دعوة الرئيس وعقد الاجتماع في المدينة المصرية النائية، التي تقترب من الحدود الغربية مع ليبيا، وتختزن في الذاكرة واحدة من أشرس الحروب البرية التي وقعت خلال الحرب العالمية الثانية، إلا أن الحضور لم يكن كامل العدد في ذلك الاجتماع، نظراً لغياب واحدة من أهم الفصائل الفلسطينية، إضافة إلى فصيلين ليسا على أي قدر من الأهمية.
وقد حضرت الفصائل بأمنائها العامين، حيث حضر رئيسا الحركتين الأكبر والأهم، وهما حركتا «فتح» و»حماس»، فترأس وفد «فتح»، بل الاجتماع كله الرئيس عباس، فيما ترأس وفد «حماس» إسماعيل هنية، كذلك شاركت الفصائل بأمنائها العامين، حيث أمكن، ذلك أن أمين عام الجبهة الشعبية ما زال يقبع أسيراً في سجن الاحتلال، فناب عنه نائبه، وفقط لوحظ غياب أمين عام الجبهة الديمقراطية، الرفيق نايف حواتمة، حيث ترأس وفد جبهته نائبه فهد سليمان، وقد يعود ذلك لظروف صحية يمر بها القائد التاريخي للجبهة الديمقراطية.
أي أن الحضور كان قوياً، باستثناء عدم مشاركة «الجهاد الإسلامي»، وهذا يحتاج قراءة خاصة، لأن غيابها كان قد أعلن حين اشترط أمينها العام زياد النخالة قبل أيام، أن تفرج السلطة في رام الله عن عناصره الذين اعتقلتهم مؤخراً، ليس لحضوره فقط، بل لمشاركة تنظيمه في الاجتماع، أي أن غياب «الجهاد» كان معروفاً، ورغم ذلك لا السلطة تراجعت، ولا حتى «حماس» تشددت، وفقط تضامن مع «الجهاد» تنظيمان هامشيان في الحياة السياسية الفلسطينية، مرتبطان تماماً بمحور إيران_سورية، نعني بهما كلاً من الصاعقة السورية، والقيادة العامة، تلك الفصائل التي عقدت اجتماعين متزامنين لقياداتها في غزة ودمشق، لتقول: نحن هنا، ورغم ذلك خرج خالد البطش أحد قادة «الجهاد» في غزة، ليقول، بأن «الجهاد» سيحترم نتائج اجتماع الأمناء العامين، ما لم يمس رؤية «الجهاد» الوطنية في الصراع مع الاحتلال.
يبدو أن «حماس» و»فتح» كلاهما كانتا تفضلان عدم مشاركة «الجهاد»، كونه لديه برنامج خاص وأجندة سياسية مرتبطة بصراع ايران_اسرائيل على النفوذ في الشرق الأوسط، فيما «حماس» أقرب لتركيا، ولديها سلطة خاصة في غزة، أما «فتح» والرئيس عباس فيدركان بأن دولة فلسطين التي لم تر النور في ظل الحرب الباردة، لن تقوم من خلال الصراع الإيراني_الإسرائيلي، كذلك فإن الرئيس بتجربته يعلم جيداً بأن الرد على التطرف الرسمي الإسرائيلي، لا يكون بالذهاب على طريق العنف، والكفاح المسلح، وعباس ليس نتنياهو حتى يرهن مصلحة وطنه بحسابات شخصية لها علاقة بالجلوس في المنصب.
والرئيس أكد في كلمته على أن الوحدة الوطنية تتمثل عبر المشاركة في (م ت ف) والحفاظ عليها وقد وصفها بأم الدولة المستقلة، وأكد على خيار المقاومة الشعبية السلمية وعلى أن إنهاء الانقسام يكون في إطار الدولة الواحدة والنظام الواحد والسلاح الواحد والحكومة الواحدة والقانون الواحد، وأن تداول السلطة يكون عبر الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني شريطة مشاركة أهالي القدس ترشيحاً وانتخاباً كما حدث في أعوام 1996، 2005، 2006، وليس عبر الانقلاب.
وفي ختام يوم واحد فقط، انتهى اجتماع الأمناء العامين دون الخروج ببيان مشترك، بل بإعلان الرئيس عباس في كلمة ختامية عن تشكيل لجنة من الفصائل لاستكمال الحوار بهدف تحقيق الوحدة الوطنية، فيما كانت الأجواء طيبة، رغم وقوع التظاهرات المطلبية داخل قطاع غزة، احتجاجاً على تزايد انقطاع الكهرباء، في ظل موجة الحر الشديدة، وأهمية تلك التظاهرات، تكمن في كونها تعيد التذكير بما يعانيه قطاع غزة من ظروف المعيشة الصعبة للغاية. أما أهم ما يمكن ملاحظته مما جرى في العلمين، فهو أن الفلسطينيين باتوا مثل العرب، ليس المهم ما يطلقونه من بيانات أو حتى من قرارات تظل حبيسة الورق، بل ما جرى ويجري عادة وراء الكواليس، والكواليس هنا، كانت في أنقرة أولاً، ثم في اللقاءات الثنائية التي جرت في القاهرة، وفي أروقة العلمين. ثم في إطلاق الهيئة القيادية (هيئة الأمناء العامين) ولجانها التي إن واصلت الاجتماع والفاعلية، فإنها ستحقق وحدة ميدانية تواجه الاحتلال بفاعلية.
وحقيقة الأمر، أنه لا بد من ملاحظة غياب خالد مشعل عن وفد «حماس»، والرجل أصلاً لم يشارك ولا حتى في لقاءات الجزائر التي جرت قبل عام، في حين أن اجتماع العلمين اظهر مجدداً الثنائي الذي بدأ عهد الشراكة السياسية بفصله القصير الجيد أولاً ثم بفصله الطويل الملتبس تالياً، ونقصد كلا من الرئيس محمود عباس، والأخ إسماعيل هنية، ذلك الفصل الذي بدأ بشكل حضاري، حين فازت «حماس» بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي عام 2006، فكلف الرئيس عباس رأس قائمتها إسماعيل هنية بتشكيل الحكومة، وفعلاً بقي الرجل رئيس حكومة السلطة العاشرة، مرؤوساً من قبل أبو مازن، من جهة السلطة ومن قبل خالد مشعل من قبل حركة «حماس»، وكان يمكن _لولا وقوع الانقلاب_ أن يشكل الثنائي وحدة وطنية حقيقية وفعالة وقوية.
وما تبديه حركة «حماس» بعد مرور ستة عشر عاماً على توليها سلطة قطاع غزة، من مرونة سياسية حتى تجاه إسرائيل، ومن تعقل ومسؤولية، بعد مراهنات طارت بعقلها طوال عقد ونصف، على سيطرة الأخوان على مقاليد الحكم في الدول العربية، وبعد مراهنة على محور الممانعة من قبل، وحتى من رهان على قطر لكسر الحصار عنها وعن غزة، وبعد أن تأكد لها بأن «فتح» لا تنوي إخراجها من دائرة الحكم، ولو بصيغة إدارة الانقسام ما بين جناحي الوطن، وبتقديرنا، ما يلوح في الأفق من احتمال تشغيل بئر مارينا باستخراج الغاز الفلسطيني من الشاطئ المقابل لغزة، والذي لا سيطرة لـ «حماس» عليه، بل إن السلطة هي المقرر الرئيسي فيه وفق اتفاق الشراكة مع مصر وإسرائيل وشركة التنقيب بالطبع، كل هذا قد دفع بـ «حماس» للتقرب كثيراً من السلطة، ولو كان الأمر غير ذلك لتشددت «حماس» أكثر، نقصد لو أن الغاز كان برياً، أي داخل حدود القطاع البرية، وتحت سلطة قسامها، لما نظرت بنصف عين مفتوحة للسلطة.
على أي حال أياً يكن الدافع، كان واضحاً بأن التوافق الثنائي بين «حماس» و»فتح»، والذي ظهر قبل عقد الاجتماع، رغم تردد «حماس» قليلا حين دعا الرئيس للاجتماع قبل شهر، سواء في أنقرة أو في القاهرة، خاصة مع مقاطعة «الجهاد»، التي لم تؤثر على مشاركة «حماس»، هو مفتاح التفاؤل، حيث يمكن لوحدة ميدانية في الضفة الغربية، وفق منطق المقاومة الشاملة الشعبية، التي هي غير مقاومة «الجهاد» المسلحة، أن تدفع الحركتين معاً لتجريب الشراكة الميدانية أولاً ومن ثم صعوداً للشراكة الرسمية، وحيث لم يعد هناك ما يحول دون ذلك، نقصد لا مفاوضات ثنائية ولا تنسيق امني، والأهم أن حلفاء الطرفين باتوا هم أنفسهم، بعد أن رفعت الأطراف الإقليمية باستثناء إيران يدها عن الملف الفلسطيني، وبعد أن بات «الجهاد» نفسه منافساً، وربما شيئاً أكثر من ذلك لكل من «حماس» و»فتح»، يمتلك مفتاح الحرب مع الإسرائيليين، سواء في الضفة أو غزة.