«زكريا محمد»: النّموذج والقُدوة، وداعاً

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 


كأنّه قادم من عصرٍ ذهبيّ للتنوير والمعرفة، وكّانّه ذاهب إلى عصرٍ قادم من العلم والحكمة والحقيقة.
نموذج وطني نادر، تكتشف نزاهته من الجلسة الأولى، وتلمس نُبله كلّما تعرّفت عليه أكثر، وكلّما أفاضَ لك وكلّما استفاض.
كأنّه يعيش لكيّ يجعل من الحياة حيوات أخرى، ولكيّ لا يموت قبل أن يقول كلّ شيء، وقبل أن يكشف ويكتشف كلّ شيء.
مسكونٌ بهاجس البحث عن فلسطين تحت كلّ حجر، وفي ظلال كلّ شجرةٍ أو نبتة في براري البلاد.
ينتمي لفلسطين منذ الأزل الأوّل، الأوّل، ويهيم حُبّاً بها إلى أبد الآبدين.
هو الحالم الواقعي الذي لم يترك باباً إلّا واقتحمه، ولم يترك مجالاً إلّا حاول معرفته.
لا أعرف إنساناً تنقّل بين الأطياف السياسية دون أن يتخلّى عن حلمه أبداً، ولا أعرف إنساناً انتقل بين السياسة والشعر، وبين النحت  والمقالة.. بين البحث في اللسانيات وأسرار اللغات، وبين الأركيولوجيا وحفريّات وألواح الأقدمين، وبين التاريخ والأسطورة ومنطق الاستنباط المُبرهن، كما هو "زكريا محمد"، وأظنّ أنّه بهذه المعاني كلها يشبه الموسوعيّين في كثير من الملامح والصفات.
"زكريا محمد" نموذج إبداعي نادر، وهو بكلّ معاني الإبداع يشبه المعادن الثمينة النادرة التي ما زال الفلسطيني في رحلة البحث عن مزاياها الخالصة.
"زكريا محمد" كان تكفيه كسرة خبز، وكوب من الشاي الأخضر ليواصل حياته التي تعجّ بها هموم الوطن المعلّق بين الأرض والسّماء.
لا أعرف، ولم أعرف شخصاً بقدراته الاستثنائية على سرعة قراءة الأحداث، ولا أذكر أبداً إن كان للاختلاف معه ما يُفسِد أيّ وُدٍّ معه، بل على العكس، يكاد يكون "زكريا محمد" هو الوحيد الذي تحبّه أكثر في لحظات الخلاف، أيضاً.
كان الحديث معه دائماً مُتعة حقيقية، وكان يضيف لك في كل حوار، ليس فقط من آدابه، وإنّما كان يضيف لك الكثير الكثير من الأفكار النيّرة، ومن الآمال التي تستتر في ثنايا فوضى السياسة الفلسطينية.
مُتعة القدرة الفائقة على الدّعابة، والسُّخرية التي تكثّف أعماق الجدّ والجدّية، والضحك المُجلجل عندما كانت تروق له "الاستعارات" الهاربة من سوريالية الواقع.
"زكريا محمد" كان "سليطاً" في وصف من يراهم مُتسلّطين، وكان "حادّاً" في مواقفه من كل مَن يراهم مُتسلّقين أو فاسدين، لكنّه لم يتنمّر ولا لمرّة واحدة، ولم يُجامل أبداً، ولم يتفهّم أبداً أنصاف الحلول والمواقف إلّا في لحظةٍ معيّنة من لحظات القفز إلى المرحلة الكفاحيّة القادمة.
"زكريا محمد" الذي لا يُحبّ أبداً أنصاف المعارك، ولا يُجيد "التأقلم" بسهولة، كان أقدرنا - كما أرى - على قَطْعِ "الصِّلَة" لكل أشكال "الاستثقاف" السياسي باكراً وقبل أيّ أحدٍ فينا، نحن الذين تربّينا في كنف "اليسار" الفلسطيني، ونحن الذين لم ننجح بالقبض على "الجمر" كما نجح هو وبتفوُّق كبير.
لفت "زكريا محمد" الانتباه لشعره في مراحل مُبكّرة، وكان إلى جانب ثُلّة من الشعراء الفلسطينيين يمثّل جيلاً جديداً بعد الكبار وعظماء الشعر الفلسطيني، وبهذا المعنى فقد كانت مرحلة "بزوغه" الشعري، هو وغسان زقطان تحديداً، ومن زاوية انخراطهما في الحقل السياسي العامّ، والحقل الحزبي، أيضاً، تمثّل "تحدّياً" من نوعٍ خاص، خصوصاً أنّ الذائقة الشعرية كانت تنظر إلى الشعر الفلسطيني كرافعة وطنية مباشرة، وإلى دور الشعر كحالةٍ من التجنيد الثقافي للمسألة الوطنية.
وكان هذا "التحدّي" يواجه موضوعياً بالقامات الشعرية الشّامخة، مثل محمود درويش، وسميح القاسم، ومعين بسيسو، وتوفيق زياد، وأحمد دحبور، وراشد حسين.. وغيرهم عشرات من الشعراء العرب الكبار، كما يُواجه بانسحاب" النّخب السياسية الطوعي من ساحة الثقافة الوطنية بمعناها الواسع والشامل، وبما هي عليه، وبما ويجب أن تكون عليه من دور ومكانة وتأثير.
في مثل هذه الظروف شقّ "زكريا محمد" طريقه، مع رفاقه الآخرين، وأحياناً كان يتقدّمهم دون خوفٍ أو وَجَل، ودون أن يلتفت إلى الخلف أبداً.
استطاع "زكريا محمد" في مثل هذه المفارقات أن يُكوِّن شخصيته الشعرية التي "استعادت" الشعر إلى الشعر، وحوّلت الدور الثقافي للشعر إلى المساحة التي كانت في وضع السيولة الثقافية بين قصيدة التجنيد وقصيدة التفاصيل الغنيّة بألوان الطبيعة وأشيائها، وبالخلجات الإنسانية القادمة من روح الصراع على اندماج الحلم بالحقيقة المعاشة، أو قدرة الخيال على مراقصة الواقع على وقع لحنٍ إنساني عميق.
كان "زكريا محمد" مسكوناً، بالإضافة إلى أشياء أخرى كثيرة، وهي كلّها قضايا جوهريّة في واقعنا الفلسطيني.. كان مسكوناً بهاجس الوقت.
أظنّه كان يشعر بثقل الوقت، بسبب معرفته بحالته الصحّية، أو أنّه لم يكن على ثقة تامّة، أو حتى كافية بـ"التطمينات" الطبّية، وكان يشعر أنّ الوقت يلاحقه بسرعة، ولهذا فقد عمل كالنّحلة الشجاعة، وجاب كلّ الحقول والبساتين، واشتمّ رحيق كلّ الزهور التي وصل إليها.
أقول هذا الآن لأنّ "زكريا محمد" توقّف مُطوّلاً، وفي حديثٍ خاص بيني وبينه قبل عدّة سنوات عند الساعات الأخيرة في حياة سعد الله ونُّوس، المؤلّف المسرحي السوري العظيم.
كان "زكريا محمد" مُعجَباً بـ"شجاعة" ونُّوس وهو يحاول أن يكتب هواجسه وهلوساته التي كان يحاول استجماعها في اللحظات الفاصلة بين الإفاقة والإغماء، وكان يرى فيه ــ أي في ونُّوس ــ مثالاً للإيمان الرّاسخ بصدق الانتماء لأفكاره، ومثابرته الثابتة في الإبقاء عليها وتخليدها.
"زكريا محمد" المُلاحق من الوقت، و"المُطارَد" من حقول المعرفة، العاشق لحجارة فلسطين، والذي كان يُقلّبها في البحث عن نفسه، هو نفسه الذي حوّل نباتها إلى عطور، وشُجيرات أسطورية كأنّها تليق بالجنّة.
وأكثر ما كان يُضحِكه هو جوابي عن سؤاله المعروف: كيف المعنويات؟ فأُجيبه على الفور: فُوق الرّيح، فيُقَهْقِهُ في كلّ مرّة، كأنّه يسمعها للمرّة الأولى.
ماذا فعلت بنا يا "زكريا محمد"؟
ألم يكن من حقّنا عليك أن تُحضّرنا ولو قليلاً لهذا الفراق؟ أم أنّك فعلت ولم تنتبه؟!