هناك إشكاليات عندما يجري التعامل باللغة العربية مع مفاهيم تولَّدت عن بيئات ثقافية مغايرة، خصوصاً تلك التي نمت في القارة الأوروبية خلال القرنين الأخيرين.
على سبيل المثال، فإن مفهوم «الدولة الوطنية» الذائع لدينا في العالم العربي يعكس مفهوم الدولة «القومية» أو (Nation State)، أي أنه يعبّر عن دولة واحدة حقيقية يوجد فيها شعب لديه هوية مشتركة، يعيش ضمن إطار جغرافي محدد ومعترف به. «القومية» في واقعنا العربي كانت دائماً تعني تجمع شعوب عربية في إطار سياسي واحد، وشكل أيديولوجية أحزاب سياسية، مثل البعث والقوميين العرب والناصريين، الذين نظروا دائماً باتجاه «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة».
الآن مضى أكثر من قرن منذ بدأ وجود «الدولة العربية»، وثلاثة أرباع قرن منذ دخلت هذه الدول إلى الحالة المستقلة، ونصف قرن منذ عمَّ الاستقلال الدول، ورغم أنها جميعاً ظلت تحافظ على رابطةٍ ما مع المجموع العربي من خلال العضوية المشتركة في جامعة الدول العربية؛ فإنها أخذت في بناء هوياتها الخاصة التي حافظت على رابطة من المساندة مع الدول العربية الأخرى. ولكن جرى بالاتجاه المضاد البحث عن هويات متعددة كانت لها أحياناً سمات عرقية أو مذهبية أو طائفية أو جهوية، وجدت أن لها في ذاتها هوية متميزة. «الدولة الوطنية» هنا كانت بمثابة العباءة التي تخلق الولاء للإقليم الجغرافي للدولة، وما كان لأراضيها وأهلها من دور في تاريخ المنطقة القديم والحديث.
ما سُمي الربيع العربي جاء في مطلع العقد الثاني من القرن الجاري، ومثَّل حالة من الارتجاج الذي يحرك جزيئات المادة ويعيد ترتيبها من جديد حسب درجات الأصالة في كل عناصرها، وفي كل الأحوال يدخل بها إلى تاريخ جديد.
أولها كان مجموعة الدول العربية التي شهد بعض منها قليلاً من الاضطرابات في هوامشها، ولكنها صمدت في وجه العاصفة، وحينما تعرضت واحدة منها للغزو الخارجي لاستغلال الموقف، لم تتردد في استخدام القوة العسكرية؛ ومن بعده معاونة الآخرين في محنتهم.
وثانيها ربما كان نموذجاً مصرياً أصيلاً، فلم ينقسم الجيش عن الشعب، ولم يتفتت أي منهما، وبقيت الدولة بمؤسساتها قادرة على الوجود والاستمرار، وخلال عامين من الفوضى خرجت الدولة المصرية من الرماد كما يخرج الطائر الأسطوري من النار.
وثالثها أن العاصفة هزَّت الدولة من أصولها، وعلى مدى عقد من الزمان، وسواء كان في اليمن أو سورية، حيث جرت الحرب الأهلية. أو أن الجيش انقسم، وتحولت الدولة إلى ميليشيات، وإلى توجهات سياسية بين الشرق والغرب كما الحال في ليبيا، أو إلى أزمة سياسية مزمنة كما الحال في تونس.
ورابعها مجموعة الدول العربية التي جاءت في شكل موجة جديدة عند نهاية العقد في كلٍّ من السودان والعراق ولبنان والجزائر، وهذه رغم ندائها للدولة الوطنية، فإنها ذهبت باتجاهات شتى، فبينما حاول العراق والجزائر التماسك مرة أخرى بفضل الثروة النفطية، فإنها انتهت إلى ما هو معلوم من انقسام وتفتيت في لبنان والسودان، مع فارق بينهما أن الأول لا يزال يقاوم الحرب الأهلية، بينما الثاني وإن لم يصل إليها بعد، فإنه وضع شكوكاً على أهم شروط الدولة، وهي أن تكون صاحبة حق الاحتكار الشرعي للقوة المسلحة واستخداماتها.
هذه الصورة من الدول العربية «الوطنية» متعددة الأشكال لا تختلف كثيراً عمّا جرى في أوروبا خلال القرن السابع عشر، وما جرى في مناطق أخرى من العالم خلال القرون الثلاثة الفاصلة بين معاهدة ويستفاليا في العام 1648 ونهاية الحرب العالمية الثانية في العام 1945. لقد كان أهم ملامح هذه المرحلة من تاريخ الدنيا ظهور «الدولة القومية»، أي الكيان السياسي الذي يربط بين أفراده من خلال مجموعة من التجارب التاريخية والعاطفية الدينية، أو حتى بمحض الوجود في المكان الجغرافي الواحد. لقد كان هذا الكيان متجاوزاً للقبيلة والطائفة الدينية أو العرقية، ومؤكداً «الهوية» المتولدة من التفاعل الاقتصادي والسياسي الذي ولَّد ما هو أكبر من مجرد المصلحة المشتركة. وبينما كانت القصائد والملاحم تشدو بجماعة دينية أو عِرقية أصبحت الأشعار الحماسية تشيد بالشعوب والأمم، وكان الاعتراف «الدولي» بالدولة هو في حقيقته اعترافاً بوجود شعب متميز له «هوية» مختلفة عن باقي «الهويات الأخرى». وكانت معاهدة ويستفاليا في جوهرها تأكيداً على أن «الهوية» الوطنية تعلو هويات فرعية أخرى لم يعد من حقها أن تكون لها صفات عابرة للقومية. ورغم أن ذلك خلق بالضرورة مشكلة «الأقليات»، فإن الحدود الجغرافية والسيادة الوطنية خلقت هوية من خلال عمليات للانصهار الطوعي أو العنيف في تجربة شعورية واحدة.
بالطبع، لا توجد نية هنا للمطالبة باستعادة التجربة الأوروبية في الإطار العربي، فالتاريخ لا يعيد نفسه، ولا الجغرافيا ينبغي لها أن تكون قابلة للتعديل، وهذا هو جوهر الفكرة الإقليمية بينما تواجه آخر التجارب العربية الدامية في السودان، وفشلها المزمن كما هو حادث في فلسطين التي انقسمت كما لم ينقسم بلد عربي آخر حتى قبل قيام الدولة. هنا فإن مصالح الإصلاح الشامل في الدول الناجية من الربيع المزعوم في المثالين الأول والثاني؛ بفعل قيادتها وأصالتها كدول تستدعي نوعاً من «ويستفاليا عربية» تحمي فيها الدولة الوطنية نفسها بالتعامل مع الأزمات القائمة، وآخرها الأزمة السودانية، من منطلق أن تكون الدولة الوطنية التي تعني «السيادة» والاحتكار الشرعي لاستخدام السلاح هي المسعى والهدف. التنمية المستدامة النابعة من مشروع وطني شامل تكون هي السبيل، وساعتها سوف تكون «الإقليمية الجديدة» قد وُلدت في المنطقة.