في ذكرى ميلاد الرئيس المؤسس .. أيها الماضي لا تُغيرنا كُلما أبتعدنا عنكَ

image_processing20220730-467952-v01eg2.jpg
حجم الخط

بقلم مروان اميل طوباسي

 

لقد حلت علينا أمس الرابع من اَب ذكرى ميلاد الزعيم ياسر عرفات ، القائد والمؤسس والرمز . لقد قاد الثورة الفلسطينية المعاصرة ما يقارب نصف قرن في زمن العمالقة والقادة المؤسسين لحركات التحرر العالمية .


كما وقاد أبو عمار حركة "فتح" كعمود فقري للثورة ولمنظمة التحرير في أحلك الظروف وتعقيداتها ، والتي تحتاج اليوم إلى فعل التجديد والوخز الايجابي للتخلص من بعض مظاهر سباتها بهدف استنهاضها وديمومتها كحركة تحرر وطني لم تنجز أهدافها بعد من جهة ، الأمر الذي يستلزم من جهة اخرى الوعي الاستراتيجي لأهمية إعادة الأعتبار لـ "م.ت.ف" وبنائها على أسس سياسية وديمقراطية وتوسيع قاعدتها الجماهيرية خاصة من فئات الجيل الشاب اليوم الذي يتقن قدرات لم يتقنها جيلنا، كي تكون قادرة على ان تتحمل المسؤولية التاريخية في قيادة نضال الشعب الفلسطيني على المستوى العالمي والاقليمي والمحلي ، وكي تستمر في ان تبقى الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا والذي مثلته طوال نصف قرن واكثر من الزمن أمام العالم بدوله وشعوبه ومؤسساته والرأي العام .


لقد حّول "أبو عمار" القضية الفلسطينية من قضية لاجئين انسانية الى قضية شعب له حقوق سياسية تاريخية وقانونية والمتمثلة بتقرير المصير وقيام الدولة المستقلة وعاصمتها القدس والعودة ، في وقت اختلف عدد من ابناء شعبنا وقياداتنا معه لكن دون ان يختلف احد عليه كقائد وكأبٍ للوطنية الفلسطينية .


الحكيم جورج حبش الذي صادف يوم مولده قبل ثلاثة ايام ، ولا ادري ان كان ذلك صدفة أو هي الضرورة ليتزامن مولديهما بفارق يومين ، قد قال في رثائه ؛ " كان رفيق درب، وقائد ثورة، ورئيس سلطة، حيث اختلفنا كثيراً، وتوافقنا كثيراً، وتوحدنا وتباعدنا، وتقاربنا، لكنها فلسطين وحدها كانت الوسيط الأهم لتوحدنا مرة تلو المرة. حيث هي الغاية والهدف، فقد كانت فلسطين بثورتها وشعبها وشهدائها واسراها أكبر من أي خلاف أو تنافر فقد كانت فلسطين هي الروح التي نستمد منها العزم والتصميم والالتحام والتوحد. وقد رحل الرئيس المناضل ، ولم تزل فلسطين هي الموحد القوي لقوى شعبنا الفلسطيني وأطيافه وشرائحه في قراه ومدنه ومخيماته ومنافيه. "


لقد وضع أبا عمار القضية الفلسطينيه في قلب المشهد الدولي وترك لنا أرثه ووصيته بأن الحقوق ثابته ولا تفريط بها، وأن الضوء يظهر في نهاية النفق، وبانه ليس منا وليس فينا من يفرط بذرة من تراب القدس . فرددنا نحن معه دائما ، بأن العهد هو العهد والقسم هو القسم ويا جبل ما يهزك ريح ، مع قناعتنا المستمرة بضرورة رؤية المتغيرات وأهمية تقييم المراحل بموضوعية وبما يخدم القضية الوطنية وتحررنا الوطني الديمقراطي بعيدا عن اية مصالح فئوية أو حسابات اخرى وعلى قاعدة المعرفة الحقيقية لسراب الحلول الامنية والاقتصادية ولطبيعة معسكري الأعداء والأصدقاء لشعبنا المكافح .


لقد أعتقد ياسر عرفات انه باتمام اتفاقية أوسلو الانتقالية والتي تنكر الاحتلال نفسه لها، سيحمي منظمة التحرير الفلسطينية بعد المتغيرات الدولية التي كانت قد بدأت بالتبلور نحو نظام احادي القطب بعد انهيار الأتحاد السوفيتي الذي وقف إلى جانب ثورتنا الفلسطينية وساندها في كل مراحلها ، إضافة إلى المتغيرات التي عصفت بوحدة الموقف العربي إزاء حرب الخليج وموقف التضامن مع العراق عندما واجه الغزو الأميركي الأطلسي، الذي اعلنه "أبو عمار" في حينه وما كان له من تداعيات على حصار المنظمة . هذا إضافة إلى اعتقاده بفرصة تحقيق ضرورة الانتقال بمركز القرار والقيادة إلى داخل الوطن بعد عقود من التشتت والتاَمر على القرار الوطني المستقل التي عانت منه منظمة التحرير لأسباب مختلفة ولفترات طويلة بحكم وجودها بالخارج وما ترتب على ذلك من تسديد فواتير مواقف هنا وهنالك ، لكن بقي الحفاظ على القرار الوطني المستقل قائما انذاك .


لقد أعتقد الرئيس المؤسس بامكانية تكرار ونسخ تجارب قادة ثوريين حققوا نجاح ثوراتهم الوطنية، لكنها كانت في ظل ظروف غير مشابهة لا ترتبط بمفهوم وواقع الاستيطان الكولنيالي الأحلالي ذو البعد الديني المزعوم أيضا.


فكان هاجسه هو إقامة أسس الدولة الوطنية المستقلة وتجسيدها على الأرض حتى ولو كانت أجزاء منها ما زالت تحت الاحتلال ومن خلال فعل التدرج بنقل السلطة القائمة بفعل قوة الاحتلال إلى سيطرة السلطة الوطنية الفلسطينية على كل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ٦٧ بما فيها القدس نحو التخلص التدريجي من الاحتلال وإخراج شعبنا من مسلسل القهر والاضطهاد المستمر وحماية الأرض من التوسع الاستيطاني وإطلاق سراح الأسرى .


فعمل على عودة عشرات الآلاف من ابناء شعبنا إلى الداخل في تكريس لحق العودة من وجهة نظره حتى ولو لأراضي السلطة الوطنية ، وعمل على فرض الاحترام الدولي لمكوناتنا الوطنية واقامة علاقات دولية وفق البروتوكولات والمواثيق المعمول بها بين الدول .
كان ذلك نابع من الفكر الوطني القائم على الواقعية السياسية والمستند الى البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الذي دافع عنه الزعيم الراحل بإجماع وطني،وايمانه بسياسة تحقيق المراحل وإقامة السلطة الوطنية على اي جزء يتم تحريره بعد ان ادرك حقيقة كافة المواقف القريبة والبعيدة وجوهر التحولات الدولية التي أتت بالهيمنة الأميركية ليس على المنطقة فحسب لكن على النظام الدولي بشكل عام ، وقرائته لمستقبل العالم العربي والرؤية الأميركية للمنطقة في غياب قطب اَخر ، والتي ثبت تحققها بعد رحيله ، وانتهاء مفهوم مجموعة دول عدم الانحياز وبداية افول شعلة حركات التحرر العالمية التي كانت قد حققت برامجها بالاستقلال الوطني لشعوبها بدعم من القطب المغادر انذاك الاتحاد السوفيتي .


فمن رماد النكبة نحو نور الثورة حمل "أبو عمار" غصن الزيتون في يد والبندقية في يد أخرى مخاطبا العالم لتحقيق مكانة وحدانية تمثيل منظمة التحرير لشعبنا. وبعد ان أقره العرب والعالم سواء، انطلق يجول العالم شرقا وغربا لتثبيت هذه المكانة في كل الدول والعواصم لحصد التضامن مع حقوق شعبنا بالحرية والاستقلال الوطني، ولاحقا من أجل الاعتراف بالدولة وفق وثيقة اعلان الاستقلال بالمجلس الوطني عام ١٩٨٨ في زمن الانتفاضة الكبرى التي كان يجب أن يستمر تصاعدها وتتطور ادائها الذي فرض على العالم احترامها نحو حصاد سياسي دون أي إسقاطات عليها ، فلربما كانت قد حققت نتائج سياسية مختلفة عن ما تم من اتفاق في ذلك الحين .


فحمل "أبو عمار" الرؤية الفلسطينية للسلام وما جاء في وثيقة اعلان الاستقلال التاريخية من مفاهيم الواجبات والحقوق ومبادئ والمساواة والعدالة الاجتماعية والتقدم والحريات وفصل السلطات ، ليجول العالم بها لانهاء هذا الاحتلال .
عاد الى الوطن ، فأخذ في بناء مؤسسات السلطة وحقق انتقال الشرعية الثورية الى شرعية الانتخابات الديمقراطية وكأنها دولة وفق اعتقاده التي كان يسعى الى تحقيقها من خلال هذه المحطة الإجبارية من اقامة السلطة نحو الوصول الى الدولة ذات السيادة كما كان يؤمن ، فكان يراها قريبة كما كان يردد .


لكن العقول الصهيوأميركية كانت تخطط لمسار آخر ، فقد كانت تهدف لأنهاء دور منظمة التحرير وتراثها الكفاحي الثوري ومحاصرتها في بقعة جغرافية صغيرة تمهيدا لانهاء دورها واستبداله بأطراف اخرى بما يروق لها لتنفيذ مشاريعها التصفوية .
فحتى اليوم لم يتحقق حلم ياسر عرفات بالحصول على دولة كاملة السيادة ومستقلة ، رغم ما تم من استمرار للمسيرة وفي بناء للمؤسسات بشكل او بآخر والتي كان من الممكن ان يكون وفق أسس وطنية مهنية افضل، رغم الظروف المعقدة دوليا وانحياز الغرب ونفاقة بازدواجية المعايير القائمة على مفاهيمهم السياسية والعقائدية ،وعوامل داخلية بفعل الانقلاب الذي غيب عمدا الوحدة السياسية والاليات الديمقراطية في مسعى لخدمة أهداف حركة الاخوان المسلمين ومن يقف ورائها والى جانبها ، والتي ادرك ياسر عرفات دورها مبكرا في تغليب روح بدعة الإسلاموية السياسية على الوطنية الفلسطينية . فتعثرت الوحدة والحياة الديمقراطية ومقومات صمود شعبنا ، مما أضر بالمصلحة الوطنية وحضورنا أمام العالم ، حيث ما زال ذلك عذرا كان ينتظره البعض لاعاقة اي مسيرة سياسية موحدة .
ربما نحن بحاجة لاستعادة الذاكرة بخصوص دور هذه الجماعة التي انشأتها انظمة الاستعمار في زمن النهوض القومي العربي زمن عبد الناصر، ولاحقا مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية خلال حقبة الحرب الباردة ، ومن ثم دورهم بما سمي جزافا بالربيع العربي لضرب الدولة الوطني ومشروعنا الوطني بالمقدمة .
خلال كل تلك الفترة كان جناح الإخوان المسلمين في فلسطين يرفض رفضا قاطعا أن يشارك فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي ورفض الانضمام للثورة الفلسطينية، بل على العكس كان العديد منهم في الأرض المحتلة يعملون بحرية كي يُحضر لهم ان يكونوا بديلاً لمنظمة التحرير .
وهذا الدور ما نراه اليوم يتكامل مع ما يتم في اروقة حكومة التحالف الفاشي الديني من مشروع التهويد والضم باراضينا الفلسطينية بالضفة الغربية وفقا لتنفيذ رؤيتهم بما يسمونه "مملكة يهودا والسامرة"، وبناء "الهيكل الثالث" في قُدسنا . كما وتصعيد خطوات وقرارات استيطانية هي الأوسع خاصة في المناطق المصنفة "ج" لمنع أي وجود فلسطيني جديد بها بل ولتشريد من هو موجود برؤية تشابه جريمة النكبة .
ورغم زيادة الحصاد الدولي بالأعتراف، فقد تعرض شعبنا وقيادته لضغوط جديدة لم تفلح لوقف التوجه للأمم المتحدة وتجميد الانضمام للوكالات الاممية وخصوصا المحاكم الدولية منها، والتوقيع على الاتفاقيات الدوليّة لان هذا الانضمام وذلك التوقيع يوفر لنا مزايا سياسية وقانونية وأخلاقية من شأنها تقوية مواقفنا ودعم نضالنا لتحقيق أهدافنا الوطنيّة والوصول إلى الاعتراف الدولي الكامل بدولتنا حتى ولو تحت الاحتلال الذي يجب ان ينتهي كمسوؤلية اساسية نحو انهاء الاحتلال اولا وتحقيق الاستقلال الوطني.
وباتت واضحة معالم ونوايا الحركة الصهيونية وحكام النظام العنصري في اسرائيل خاصة بعد اغتيال عصابة دولتها العميقة لرئيس وزرائهم انذاك إسحق رابين وتنكرها حتى اليوم لكل الاتفاقيات الموقعة وحتى منها التي كانت برعاية دولية ومن ضمنها اتفاقية أوسلو وبما تحمله من نصوص رغم ما جاء فيها من اجحاف لاعاقة إقامة الدولة الفلسطينية .
واليوم وفي ظلال ذكرى مولد الزعيم المؤسس، وبعد كل تلك العقود، علينا أن ندرك حقيقة ان إسرائيل وبعد ان أقيمت تحقيقا لمشروع استعماري وكاداة لاطماع وهيمنة الغرب بمنطقتنا، وعلى مدى كل تلك العقود من السنين ترفض أن تكون طرفاً في الوصول حتى الى تنفيذ الخيار الدولي المتمثل بحل الدولتين رغم ان هذا الحل قد اصبح من غير الممكن الان، الا اننا نبقى متمسكين به لاعتراف "١٤٠" دولة بدولتنا وفق ذلك المبدأ، وذلك وفق كل مواقف الحكومات المتعاقبة في دولة الاحتلال التي لم تكتف بذلك ، بل وتُصعد من اضطهادها وقهرها لشعبنا بكافة الوسائل وتزيد من توسعها الاستيطاني وضم الأراضي واجراءات التهويد والتمييز العنصري والقتل اليومي .