زمــن درويــش ...!

b4074a08395cccfa2439721cb44bffc8.jpg
حجم الخط

بقلم أكرم عطا الله

 

 

 


في كل ذكرى للغياب يحن القلب لذلك القلب الذي رسمنا في القصيدة ونثرنا على الريح  ويتسمّر القلم عند أحرف اسمه أفقية التكوين، هي سطوة صانع اللغة الماهر على من يمتهنونها اعترافاً بمن علمنا كيف نكتب على خطى من كان يرتل الكلمات، وينشرها على حبل الغسيل في هواء الجليل.
كنبيذ الأديرة يتعتق شعر درويش في جرار العمر وخوابي الذكريات، ويرشح من زمن بعيد معطراً بلازورد الانتظار على ظهر حصانه المعدّ لأساطير العشق ومغامرات الموت والحياة، وهو المسافر لاقتحام حصون طروادة والعائد ليوزع خوذ الغرباء على طرق الشام قبل أن يرفع شارة النصر الأخيرة.
قبل المناسبة يصيبني قلق مقالها السنوي. فماذا أكتب وأي لغة تليق بمقام سيد اللغة ؟ فأبحث عن باب الطوارئ للهروب من وطأة الذكرى، ذات مرة كتب عن الموت في ذاكرة للنسيان عندما كانت الطائرات تحرث أرض بيروت وسماءها، كان قلقاً على أناقته إذا مات، وأكثر ما كان يفزعه قذيفة تشوّه ملامحه ليكتب أريد «أن أموت جميلاً» فأي كلام يليق بمخمليته التي حرص عليها كما القصيدة، ولكن وخزة الوفاء للمعلم تمد بما يكفي من مغامرة الكتابة كالعادة.
كان الشاعر كرماني يجيب بسخرية المثقف السامي على سؤال ملك ملوك سمرقند تيمورلنك الرهيب حين سأله في لحظة غرور: يا كرماني بكم تشتريني لو عرضت في السوق ؟ أجاب الشاعر: بعشرة دنانير، فقال الملك: ولكن حزامي وحده يساوي عشرة دنانير، ليرد كرماني: «أنا أقصد حزامك وحده لأنك أنت لا تساوي قرشاً واحداً».
هكذا كان مجد الكبار من الشعراء والمثقفين الذين احتفظوا بكبرياء المثقف ولم يكونوا خدماً للسلاطين فخلدهم التاريخ.
عثرت على ضالتي في كتاب صديقه زياد عبد الفتاح «صاقل الماس» والذي لم يفلت مثلنا جميعاً من سحر درويش في العناوين من قصيدة «فرح بشيء ما» حين كان درويش يتغزل بالحب قائلاً: «يصقلني كماس أميرة».
في الكتاب ما يكفي من الذكريات لشاعرنا الذي تعالى على السياسة وعلى المناصب وعلى السياسيين الذي جاءت بهم المصادفات وليس المواهب في لحظة تاريخية ليصبحوا قادة، معتبراً أن الثقافة مهنة أسمى كثيراً من مهنة السياسة وعلى المثقف أن يخاطب السياسي من علياء مكانته لا أن يضع نفسه صبياً لعواصمها كما قال الراحل زكريا محمد وهو يزهو بنفسه بأربعينية ما قبل الرحيل.
رفض درويش الخروج من بيروت مع القيادة السياسية، لكن حين أصبح طريداً ومطلوباً للإسرائيليين بعد أن عرفوا أنه لم يغادر أنقذه السفير الليبي ليتكفل بتهريبه في سيارته المحصنة وبغطائها الدبلوماسي إلى دمشق وما أن وصلها حتى جاءته دعوة من الرئيس السوري حافظ الأسد للقاء على فنجان قهوة وهو ما كان يتمناه الكثيرون، فقد كان الأسد في ذروة مجده، ليذهب درويش لاستشارة بعض الأصدقاء المقربين إن كان يقبل الدعوة أو يعتذر عنها.
وفي اللقاء فاجأه الأسد بقوله: «لألف عام ظل المتنبي يتربع على عرش الشعر العربي حتى جاء محمود درويش» بعد أن أعد الأسد جيداً للقاء بقراءة ما استطاع من شعر درويش.
لم ينبهر الشاعر كعادة المثقفين الصغار بأبهة الرئاسة ولا المديح العالي ولا كرم الضيافة حين وضع الأسد إمكانيات الدولة بتصرف الشاعر للتفرغ لرسالة الشعر، بل كان يُسِر للأصدقاء حول عيني الرئيس الباردتين معتبراً أن لديه رخصة لن تطول قبل أن يغضب منه الأسد ويغادر الشام كما جاء.
منتصف ثمانينيات القرن الماضي أراد الاتحاد السوفييتي الذي كانت تدور في فلكه نصف الكرة الأرضية تكريم درويش بمنحه جائزة لينين. تردد الاتحاد السوفييتي بعظمته في مفاتحة درويش خشية حرج الاعتذار بالأمر ليبحث عن وسيط لإقناع الشاعر وجائزة لينين حينها كانت المعادل الشرقي لجائزة نوبل ليتصل السفير السوفييتي في تونس بأمين سر اللجنة التنفيذية آنذاك محمود عباس الرئيس الحالي ليفاتح درويش بالأمر ورغم ذلك يذهب درويش المترفع لاستشارة الأصدقاء إن كان يقبل بالجائزة أم يعتذر عنها.
بعد توقيع اتفاق أوسلو يعلن عضو اللجنة التنفيذية محمود درويش وهو أعلى هيئة في الشعب الفلسطيني معارضته للاتفاق.
يظل الرئيس عرفات يراهن على درويش ليكون أول وزير ثقافة في أول سلطة يقيمها الفلسطينيون ثم يطلب زياد عبد الفتاح صديق درويش للقبول بالضغط عليه رافعاً الإغراء إلى حد تعيين درويش نائباً لرئيس السلطة، هكذا يسرد زياد في كتابه ولكن درويش يرفض مقدماً استقالته من اللجنة التنفيذية التي يمضي السياسيون أعمارهم حالمين بعضويتها فقد كانت في ذروة هيبتها آنذاك.
هذا هو الشاعر الذي احتفظ بكبرياء الثقافة ولم ينزلق في لوثة السياسة ولم يجعل من الثقافة أداة وضيعة في خدمة صغائرها وظل عصياً قصياً كما وطنه، تلك الزاوية كنا نشعر بها في تعالي درويش ولكننا كنا بحاجة لوقائع يرويها المقربون لرجل جاء وأحدث هذا الصخب الذي أتعب الأيادي وهي تصفق لفلسطين وملأ الكون حباً وغادر خفيفاً كما الظل قبل أن يكتب ويحفر اسمه عميقاً على جذع شجرة الجميز وعلى الصفحة الأولى من تاريخنا، ..... له السلام يوم ولد ويوم مات في التاسع من آب ويوم يبعث حياً.