نحن في منتصف موجة حارة بالغة القسوة، فرضت على الجميع تنظيم البرامج والنشاط، واختصار الجهود، سكوناً وقلة حركة، ووفرت فرصة للتفكير في القضايا العامة الدولية والوطنية.
وسألت نفسي أولاً عما إذا كان الشعور بارتفاع الحرارة استثنائياً، باعتبار أن الصيف دائماً هو أكثر المواسم حرارة، فوجدت إحصائيات علمية موثقة تؤكد الارتفاع غير المسبوق في درجات الحرارة عالمياً خلال هذا الصيف، بل وأن الإثنين ٣ تموز كان الأشد حرارة في التاريخ، في ظل حلقات متصلة لارتفاع حرارة الأرض بمعدل 0.08 سنوياً كل عشر سنوات منذ ١٨٨٠، معدلات تضاعفت منذ ١٩٨١، فضلاً عن أن عدداً غير قليل من أكثر السنوات دفئاً كان منذ العام ٢٠١٠، وأن دولة مالي هي أكثر دولة من حيث ارتفاع الحرارة خلال العام الجاري.
والحرائق الصيفية في غابات أميركا وكندا وأوروبا، وارتفاع درجات الحرارة عن المعتاد في بلدي مصر، ولا علاقة لذلك بحرب أوكرانيا، أو مشاكل توليد الطاقة الكهربائية، ويرجح العلماء أن السبب الرئيس لذلك هو التغير المناخي، بل صرح سكرتير عام الأمم المتحدة أخيراً بأننا بدأنا «عصر الغليان الحراري».
قضية التغير المناخي تحظى بقدر كبير من الاهتمام الدولي، والمرتبط بالشرق الأوسط الآن نتيجة للخسائر الجمة الناتجة عن تداعياتها على الرقعة الزراعية وكمية المياه المتاحة، وتوافر قدر كبير من البترول الخام والغاز في المنطقة، والذي يفرض على دولها إجراء تغييرات جذرية في اقتصاداتها للتحول إلى اقتصادات تطلق معدلات أقل من الانبعاثات الضارة، استضافت مصر العام الماضي مؤتمر تغير المناخ رقم ٢٧، وكان من أبرز إنجازاته الموافقة على إنشاء صندوق ليساعد الدول النامية في تمويل التحول إلى الطاقة المتجددة، وهي خطوة نأمل أن تترجم إلى خطوات ملموسة، وتحظى بالدعم اللازم دون المزيد من التأخير على غرار ما تم بالنسبة لوعود الدول الصناعية السابقة.
كما تستضيف دولة الإمارات الدورة الـ٢٨ لمؤتمر المناخ قبل نهاية العام الحالي، ما يجعل العالم ينظر باهتمام لتطور مواقف الدول البترولية من تلك القضية، خاصة وقد وعدت بالفعل ببرامج نشطة وطموحة لتخفيض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، مع تمسكها بضرورة التزام الكل بنظم شاملة وخطط واضحة وعادلة وثابتة لتخفيض الانبعاثات دون ازدواجية في المعايير، خاصة أن غاز الميثان المصاحب للمخلفات الحيوانية في المراعي والأراضي الزراعية يعتبر من أقوى مصادر انبعاثات غاز الميثان الضار، وبعد عودة عدد من الدول الأوروبية إلى استخدام الفحم لتوليد الطاقة، وهو من أخطر مصادر الطاقة المضرة للبيئة والمناخ.
وجذبتني حرارة الجو نحو التفكير أيضاً في «السخونة والغليان السياسي» والنزاعات والحروب التي تندلع خلال أشهر الصيف، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، في ليبيا، والسودان، وفلسطين، واليمن، والأزمة في سورية. منطقة مشتعلة سياسياً وعسكرياً بأي معيار من المعايير، وهناك توتر وقلق مشروع على المستوى الدولي، مع أحداث أوكرانيا وإعادة الحديث عن المواجهات والصدامات بين الدول الكبرى، واللجوء إلى القنابل العنقودية المنبوذة دولياً والمحرمة في العديد من الدول، وانتشار الأسلحة النووية التكتيكية في بيلاروس، وإلغاء اتفاق توفير القمح الأوكراني.
ووجدت أن التاريخ مليء بالمعارك والحروب التي بدأت في أشهر الصيف الساخنة تحديداً، حتى إذا قصرنا البحث على سنوات محدودة وما يرتبط بأوضاع عربية، منها الحرب العربية - الإسرائيلية في ٥ حزيران ١٩٦٧، وغزو العراق للكويت في ٢ آب ١٩٩٠.
وأول ما استخلصته من التأمل والتفكير مع السخونة البيئية والسياسية والعسكرية التي نشهدها ونعاني منها خلال صيفنا الحالي، كان أن السبب الرئيس لأغلب مظاهر السخونة البيئية والسياسية هو عدم التزام الأطراف بقواعد القانون، وتجاوزات القوي على الضعيف.
والخلاصة الثانية أن أغلب تلك المشاكل لا تنحصر في منطقة النزاع المباشرة أو داخل حدود الطرف المبالغ والمخالف، ولها تداعيات تتجاوز الحدود الوطنية للدول، كان ذلك بالنسبة لحرارة الجو والمناخ، باعتبار أن النمو الاقتصادي الممنهج والسريع للدول الصناعية كان مصدراً لانبعاثات ضخمة أثرت على الجميع، في حين أن الدول النامية مطالبة الآن بتخفيض استهلاكها للطاقة، ومن ثم معدلات التنمية فيها، وأن النزاعات العسكرية عامل هادم للاستقرار وطارد للمواطنين، ينتهي في أغلب الأحيان إلى نزوح اللاجئين، وعبورهم حدود دول الجوار بحثاً عن الأمن والأمان، وعليه فمن الضروري أن تكون هناك قواعد دولية عامة للكثير من الظواهر والممارسات.
والخلاصة الثالثة هي أن الغالبية العظمى من المشاكل والنزاعات الدولية لا تحل منفردة، وتستدعى وبشكل ملحّ وعاجل التعامل متعدد الأطراف على المستويَين الإقليمي والدولي، سواء كان ذلك في التغير المناخي وتداعياته البيئية، مثل ندرة المياه والأمن الغذائي والصحي، أو في حل النزاعات السياسية وتداعياتها، فلا استقرار في المشرق دون حل النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، أو في سورية أو السودان أو ليبيا، دون توافق سياسي مع دول الجوار من ناحية، وتوفير تمويل دولي لجهود إعادة الإعمار، ولا بد من الحد من توجيه التكنولوجيا الحديثة لأغراض عسكرية هدامة، وتصحيح الخلل في النظام الدولي المالي، وهيمنة الدولار وعملات الدول الصناعية المتبنية للاقتصاد الحر، ما يجعلها عناصر حاكمة على الأسواق والمصالح عالمياً.
والخلاصة الرابعة.. لا حل لقضايانا السياسية أو الاقتصادية أو المجتمعية دون توافر عقد اجتماعي دولي جديد على أساس توازن المصالح والحقوق وفقاً لقواعد عادلة تطبق دون ازدواجية في المعايير، في سياق منظومة متعددة الأطراف، عالمية وإقليمية ووطنية، تشمل وتستمع وتستجيب للرأي والرأي الآخر، وقد آن الأوان لبدء تحرك وحوار دولي جاد في هذا الخصوص.