تحاول فرنسا، ومن خلفها الولايات المتحدة وبريطانيا، و»الغرب» كلّه أن تصوّر ما جرى من انقلاب عسكري في النيجر وكأنّه «عودة» لسياسات الانقلابات العسكرية التي كانت تحدث في بلدان كثيرة من بلدان القارّة الإفريقية.
ويحاول الإعلام المغرض في كلّ بلدان «الغرب» أن يربط ــ ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ــ ما بين هذه «الانقلابات» وبين «التخلُّف» السياسي والاجتماعي في هذه البلدان، دون أن يخطر ببال هذا الإعلام ولا للحظة واحدة العلاقة التي ربطت، وما زالت تربط، وستظلّ تربط ما بين سياسات الاستعمار «الغربي» حيال هذه البلدان من نهبٍ ولصوصية حالياً، ومن احتلال عسكري مباشر لعشرات السنين، ومن القيام بالجزء الأكبر من هذه الانقلابات، هذا بالإضافة إلى رعاية الإرهاب الذي تدّعي محاربته، والوقوف خلف كلّ الويلات والأهوال التي تعاني منها معظم بلدان القارّة السمراء.
غرائب وعجائب سياسات «الغرب» في إفريقيا ليس لها مثيل بالمقارنة مع سياسات هذا «الغرب» في مناطق وقارّات أخرى.
كان «الغرب» سينظر إلى الانقلاب الذي حدث في النيجر في ظروف أخرى باعتباره «حدثاً» يكاد يكون معتاداً، وباعتباره «حالة» سيتمّ تحديد الموقف منها حسب موقف «الانقلابيين»، وحسب الظروف الملموسة.
أمّا الآن فإنّ هذا «الغرب» بعد هذا الانقلاب قامت قيامته، ولم تقعد بعد، وتداعى وشرع بتحضير القوات والجيوش لإعادة البلاد إلى الحالة «الدستورية»، وفرنسا تهدّد بأنها ستتدخّل عسكرياً لإنقاذ «الديمقراطية» هناك، والولايات المتحدة وبريطانيا، ومن خلفهما دول الاتحاد الأوروبي قاطبةً تتحدث عن تدخّل عسكري حتمي إذا فشلت الجهود الدبلوماسية لإعادة الحياة «الدستورية» إلى البلاد.
النيجر، أفقر فقراء إفريقيا، والذي يصدّر إلى أوروبا، وإلى فرنسا على وجه التحديد أغلى معادن المفاعلات النووية الفرنسية والأوروبية، عليه أن يبقى صامتاً ذليلاً أمام عمليات النهب الوحشية تحت يافطة الحياة الدستورية، ويصبح النيجر إذا ما حاول التمرّد على هذا الواقع البائس، وإذا ما رفع صوته ضدّ هذا النهب، وضدّ حالة الفقر المُدْقِع الذي ترزح تحته البلاد وكلّ العباد فيها.. يصبح في عُرف هذا «الغرب» متمرّداً على «الديمقراطية»، وعلى «حقوق الإنسان»، مع أنّ هذا الإنسان بالذات لا يعرف من وسائل العصر الحديثة سوى بعض الشذرات، وسوى مظاهر الثراء الفاحش لقادة الحالة ووكلاء «الغرب» في إفقار شعبهم، وتهريب ثرواته الوطنية.
كان يمكن لـ «الغرب» أن يتغاضى في ظروف أخرى لولا أنّ انقلاب النيجر يتمّ هذه المرّة بإعلان رسمي واضح أنّ البلاد لم تعد تحتمل، أو تتحمّل كلّ هذا النهب، وكلّ هذا الإفقار، وكلّ هذه اللصوصية التي بلغت حدود الوحشية والإجرام.
لكن فرنسا، ومن خلفها «الغرب» كلّه اليوم ينظرون إلى هذا الانقلاب بصورةٍ مختلفة جذرياً عمّا كان يمكن أن يتغاضوا عنه، أو التعامل معه.
أمّا السبب لمن يريد أن يعرف، ومن يعرف ويتجاهل الحقيقة، ومن لم يعرف بعد، ومن هو مضطرّ لأن يعرف بعد ذلك.. السبب في موقف فرنسا، وفي موقف «الغرب» هو أنّ انقلاب النيجر قد جاء بعد سلسلة الخسائر الباهظة التي مُنيت بها السياسة الاستعمارية الفرنسية في عدّة بلدان إفريقية، وخصوصاً في مالي وبوركينا فاسو، وجمهورية وسط إفريقيا أجبرت الرئيس الفرنسي نفسه على الاعتراف بالهزيمة، وعلى «إنهاء» عملية «مكافحة» الإرهاب في تلك المنطقة، وبعد أن بدأت عمليات «تمرُّد» واسعة تنتشر في بعض بلدان القارّة كالنّار في الهشيم.
كما يأتي هذا «الانقلاب» في ظروف دولية جديدة تشكّل في مجملها بداية انقلابات كبيرة في التوازنات الدولية، وبداية خسارات غربية دشنتها الحرب في أوكرانيا بعد أن فشل النظام الجديد في أوكرانيا في أن يكون رأس حربة فاعلا أو ناجحا لتقويض الدولة الروسية، وبعد أن تأكّد الآن فشل نظام تايوان في أن يشكّل لا رأس حربة، ولا حتى رأس دبُّوس في مواجهة الصين.
فقد «الغرب» الأمل بربح الحرب، وتحوّلت هزيمة أوكرانيا إلى واقع مؤكّد في طور «الاعتراف»، وسئم «الغرب» من حربٍ لا طائل من ورائها، وليس أمام الاستمرار بها سوى دفع الثمن الباهظ، والمغامرة بكل شيء.
ومن سوء حظّ «الغرب» أنّ قادة الانقلاب ليسوا مجموعة من المغامرين، وليسوا مجرّد هُواة، ولا هم من حديثي الخبرة، وهم على ما يبدو حتى الآن عرفوا بالضبط متى يقومون بما قاموا به، وعرفوا بالضبط مكامن القوة لديهم، ومكان الضغط لدى «الغرب» كلّه.
ومن سوء حظّ «الغرب»، أيضاً، أنّ روسيا التي تجيد بصورةٍ إبداعية سياسة «التحليق» لـ «الغرب» في كلّ القارات، وسياسة تشتيت قدراته في كلّ عمليات الهجوم التي يقوم بها «الغرب»، وسياسة الإقناع التي يتمتّع بها الرئيس الروسي، وتقديم البدائل، ووضع بلدان كثيرة أمام خيارات واختيارات مستقلّة، نابعة من المصالح الوطنية لتلك البلدان.
من سوء حظّ «الغرب» أنّ هذه السياسات باتت مؤثّرة وفعّالة، وأصبحت بلدان كثيرة في القارّة الإفريقية، وفي العالم تشعر أنّ بإمكانها الاعتماد على الدعم الروسي، وأنّ بإمكانها الاستناد إلى سياسة روسية ليس لها علاقة من قريبٍ أو بعيد بالنهج الاستعماري، أو بالنهب واللصوصية، وأنّ التعاون مع روسيا هو مصلحة كلّية لكلّ الأطراف دون أيّ إكراه، أو إذعان أو إخضاع أو ابتزاز.
ليس هذا فقط، بل إن الصين التي لها باع طويل في العمل مع بلدان القارّة، وتربطها بهذه البلدان شبكة من العلاقات الاقتصادية المتينة باتت تلتقي بالتوجهات الروسية في القارّة.
«الغرب» قام بكلّ ما يمكن القيام به لإفشال القمة الروسية الإفريقية، لكنّ الفشل كان حليفه، وعقدت القمّة رغم كل الضغوط المعهودة، ورغم التهديد «الغربي» الفاضح بقطع الأرزاق وقطع الأعناق.
وكانت النتيجة أنّ روسيا خرجت من هذه القمّة بمئات الاتفاقيات، وبكثيرٍ من أوجه التعاون، وربّما تكون روسيا بعد هذه القمّة قد حقّقت أكبر اختراق إستراتيجي في مواجهة العقوبات التي فرضها «الغرب» ضدّ روسيا في صورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ كلّه.
ولكنّ سوء حظّ «الغرب» الأكثر سواداً واسوداداً هو أن التدخل العسكري لإنقاذ ليس فقط المصالح الاقتصادية التي تنظم شبكة النهب «الغربي» للبلدان الإفريقية، وإنّما لإنقاذ «القواعد العسكرية» لـ «الغرب» في معظم بلدان هذه المنطقة من القارّة، وهو أمرٌ يعني الكثير بعد الهروب من أفغانستان.
عينُ الولايات المتحدة على القواعد العسكرية، وبريطانيا تشعر أنّ ساعات تواجدها العسكري صارت محدودة وقليلة، وروسيا ستتموضع هناك تحت هذه اليافطة أو تلك، وهو الأمر الذي يعني أنّ القارّة لن تشعر بعد اليوم أن «الغرب» وحده هو الّلاعب الوحيد في الميدان، وأنّ تجربة سورية الروسية في طريقها إلى التعميم على ما يبدو.
أي أنّ الصيغة القادمة في بعض بلدان القارّة السمراء هي: إمّا أن ترحلوا طوعاً أو سنرحّلكم بالقوّة، وإذا تدخّلتم عسكرياً ستواجهون ليس قيادة الانقلاب في النيجر وحدها وإنّما ثلاثة بلدان أخرى على الأقل، وإذا دخلت معكم بلدان إفريقية أخرى ضدّ النيجر فإنّ هذا معناه الحرب في القارّة كلّها.
ولسان حال قادة النيجر يقول: هل أنتم في وضع يمكّنكم من خوض حرب كهذه في إفريقيا وعليها؟
لهذا بالذات فإنّ انقلاب النيجر يمكن أن يكون بداية هبّة إفريقية.