رغم أنه مر على إعلان قيام دولة إسرائيل، خمسة وسبعون عاماً، ورغم أنها منذ قيامها وحتى الآن تتمتع برعاية وحماية أقوى دول العالم، بريطانيا العظمى أولاً، ومن ثم الولايات المتحدة الأميركية التي ترتبط معها بتحالف استراتيجي، قل نظيره بين دول العالم، ورغم أنها تمتلك السلاح النووي، بما يقارب ما بين 80_400 رأس حربي، ورغم أنها أيضاً تمتلك اقتصاداً قوياً، يبلغ ناتجه القومي نحو 400 مليار دولار سنوياً، إلا أنها ما زالت مسكونة بهاجس أمني، لا نعتقد بأن دولة أخرى تمتلكه، حتى لو كان عمرها أقل من نصف عمر إسرائيل، وحتى لو كانت هي دولة توفالو أو ناورو. وإسرائيل بعد أن كانت تقيم الدنيا ولا تقعدها، بادعاء كونها مهددة وجوديا من دول الجوار العربي، مصر وسورية والأردن، رغم أنها كانت تشن عليها الحروب كل عقد مرة، وتنتصر عليها مجتمعة وتحتل أراضيها، التي ما زالت تحتفظ ببعضها حتى اليوم (الجولان السوري)، وبعد أن انهار جدار الصد العربي كله تقريباً، بعد اتفاقيتي السلام مع مصر والأردن، واتفاقيات التطبيع مع الإمارات والبحرين والمغرب، والتفتت الداخلي لدول ليبيا والسودان واليمن والصومال، وحتى العراق، رغم كل ذلك، ما زالت إسرائيل مسكونة لدرجة الهلع بالهاجس الأمني.
وبعد ما أشرنا إليه من اجتياز إسرائيل حاجز الصد العربي، والذي أبعد ما وصل إليه، بمبادرة السلام العربية المعلنة منذ عام 2002، كان هو مبادلة التطبيع الجماعي بالأرض والدولة الفلسطينية، فإن إسرائيل سرعان ما ابتدعت عدواً وهمياً، وهو ليس أكثر من منافس لها على النفوذ الإقليمي، ورغم أن إيران أضعف منها اقتصادياً، رغم ما لديها من ثورة نفطية، وأضعف من إسرائيل عسكرياً، نظراً لما لدى إسرائيل من سلاح نووي، يحتوي عشرات القنابل الذرية، إلا أن إسرائيل سعت لدفع أميركا ومعها العالم لشن حرب دولية، تشبه ما فعلته مع العراق قبل عقود، على إيران، وحتى بعد أن توصلت أميركا والدول العظمى الأعضاء في مجلس الأمن مع ألمانيا، أي الدول الخمس+واحد، لاتفاق حول برنامج إيران النووي يضمن إبقاءه على الجانب السلمي، دون تحوله لإنتاج القنبلة النووية، إلا أن إسرائيل، استخدمت نفوذها في أميركا لدفعها عبر رئيسها السابق دونالد ترامب، للتنصل من ذلك الإتفاق، وبعد أن عاد الرئيس الحالي جو بايدن، لأسباب سياسية لديه لمنح أولوية لاحتواء روسيا، للسعي إلى العودة للاتفاق مع إيران، فقد سعت إسرائيل بمعسكريها السياسيين، إلى تخريب ذلك المسعى، إلى أن نجحت بقطع الطريق على بايدن.
لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، فإسرائيل التي تحتل الضفة الغربية احتلالاً مباشراً وبالكامل، وتعتمد في احتلالها ليس على جيشها وحسب، بل وعلى أكثر من نصف مليون مستوطن_مستعمر، شبه مسلح، أي عبارة عن ميلشيا مسلحة في مواجهة شعب أعزل تماماً، ومحاصر في «جزر» بأكثر من 400 حاجز عسكري بين المدن والقرى الفلسطينية، وإسرائيل التي تحاصر قطاع غزة، بمساحته الضيقة، التي تبلغ 365 كم2، وتتحكم بالماء والهواء الذي يتنفسه، كذلك إسرائيل التي تعربد ليل نهار في سماء سورية التي بالكاد خرجت من حرب داخلية ضروس دمرت معظم اقتصاد البلد وشردت نصف سكانه، وهي التي دفعت بلبنان إلى حافة الانهيار الاقتصادي، إسرائيل تعتبر عبر تصريحات مسؤوليها، المتوالية أن هناك خمس جبهات معادية، هي إيران، سورية، لبنان، غزة والضفة الغربية!
وتعتبر أيضاً أن قدرة جيشها الذي كانت تقول عنه لا يقهر، على الردع قد تآكلت، وكل هذا دليل على أنها مسكونة إلى حد الهوس أو المرض النفسي بهاجس الأمن، وفي التفاصيل، أضافت الأوساط الإسرائيلية في حديثها عن مخاطر حزب الله اللبناني عليها، بعد الإعلان عن أن الحزب يمتلك عشرات آلاف الصواريخ القادرة على الوصول إلى كل المدن الإسرائيلية، وبقدرته على إطلاق مئات الصواريخ في الرشقة الواحدة، القول قبل أيام قليلة بأن لدى الحزب سلاحاً كيماوياً، أما عن غزة فهي لا تكف عن ادعاء مخاطر الاجتياح البري لتبرير ما تلقيه على القطاع من أطنان البارود المدمر، كل مرة تشن عليه فيها الحرب، وكثيرا ما تعلن مصادرها الأمنية عن تطور في قدرات القسام وأخوته فيما يخص دقة التصويب، وإطالة مدى الصواريخ ذاتية الصنع، أما عن الضفة الغربية، وبعد اجتياح جنين ومخيمها مطلع شهر تموز الماضي لمدة يومين، ما زالت لا تكتفي بهذا، بل اعتبرت مؤخراً بأن ما حدث في تلك العملية لم يكن سوى نموذج لصراع عسكري مصغر في الضفة الغربية.
أما عن إيران فبالطبع لا زالت إسرائيل رغم أنها بين فينة وأخرى تضرب في العمق الإيراني، تصر على أن إيران تقترب من صنع القنبلة النووية، وكأن إيران حتى لو فعلت هذا، فإنها ستقوم بإطلاق تلك القنبلة فوراً على إسرائيل، وحتى أنها لو فعلت ذلك فإن إسرائيل ستقف مكتوفة الأيدي، كما فعلت اليابان عام 1945، وتتجاهل إسرائيل أو تريد من العالم أن يتجاهل ما لديها من قنابل نووية، يمكنها أن ترد على إيران بإطلاق خمسين قنبلة نووية مقابل قنبلة إيرانية واحدة، من شأنها أن تمسح ليس إيران كلها، بل نصف العالم عن الخريطة الكونية.
إسرائيل ما زالت تبالغ في التعبير عن مخاوفها الأمينة، وذلك ناجم _بتقديرنا_ عن سببين أو عن سبب ودافع، أما الدافع فهو مواصلة ابتزاز العالم، الغربي منه خاصة، بعد ابتزازه بالفعل طوال أكثر من سبعة عقود على خلفية المحرقة، وذلك لتحقيق المكاسب السياسية المتواصلة، وتحقيق التفوق العسكري والسياسي، لأن إسرائيل لا تكتفي بالعيش داخل دولة بحدود آمنة، بل تتطلع لإقامة دولة عظمى، أقلها دولة إقليمية عظمى، إن لم يكن دولة كونية عظمى، ولأنها ما زالت بمساحة صغيرة نسبيا، وبعدد سكان أيضا قليل لا يتجاوز العشرة ملايين نسمة، فإنها تحاول بإثارة تلك الهواجس أولا أن تقنع الآخرين باستحالة انسحابها من الأرض الفلسطينية والسورية المحتلة، وحتى بإقناعها باحتلال أراض أخرى إن أمكنها ذلك، وحيث أن ذلك بات يبدو شبه مستحيل، فإنها تسعى لإقناع الآخرين بجعل المناطق المحيطة بها، إن استحال عليها احتلالها، أرضا خالية، أو منطقة أمنية، وهذا ينطبق إضافة إلى سيناء وكل الأردن والعراق وسورية، وصولا إلى إيران وتركيا، لذا باتت ترى في إيران دولة حدودية بالمعنى الأمني!
أما السبب فهو أن إسرائيل ما زالت لا ترى في نفسها دولة طبيعية، أي أنها نشأت دون مسوغ طبيعي، يكون عادة السبب الرئيسي لإقامة الدول، والدليل أنها ما زالت لا تنتمي لمنطقة الشرق الأوسط، وما زالت تعتمد على الدعم السياسي والحماية الكاملة من الغرب عموما، ومن أقوى دولة في العالم خصوصا.
إسرائيل لهذا السبب ما زالت مسكونة لدرجة المرض النفسي بهاجس الأمن الوجودي، وهي تحاول أن تفعل المستحيل أي الجمع بين المتناقضين، أي الاحتلال والأمن، وهكذا فإن السؤال البديهي الذي لا بد أن تواجه به إسرائيل من قبل غيرها، وحتى أن توجهه هي إلى نفسها، هو لماذا هي غير كل دول العالم، لماذا ترى في كل ما يحيط بها عدواً، وبإمكانها أن تتخلص من معظم هذا الشعور، بل ومن تلك الحالة، فقط بالانسحاب من أرض دولة فلسطين والجولان السوري، والعيش كدولة مسالمة ضمن الشرق الأوسط، تماما كجارتها لبنان، وكجارتها الأردن، وككل الدول الصغيرة في المنطقة، مثل جيبوتي، والبحرين، واللواتي لا تحتاج إلى الأسطول السادس ولا إلى الفيتو الأميركي للحفاظ عليهن طوال أكثر من سبعين عاماً!