وصلنا إلى "اليهودي اللا يهودي"، وكيف يمكن استخدام مرافعة دويتشر، في الكتاب الذي يحمل العنوان نفسه، كوسيلة إيضاح على طريق الكلام عن خيارات كونديرا الشخصية والروائية. ما يحتل المتن في المرافعة المعنية يتمثل في نماذج يسوقها الكاتب للكلام عن، والتدليل على، ظاهرة خاصة وسمت وجود اليهود في مجتمعات وثقافات الغرب.
الظاهرة هي عيش اليهود على الحد بين لغات وثقافات وديانات وقوميات وجغرافيات وتحوّلات وتواريخ مختلفة. وقد مكّنتهم هذه الخصوصية من رفد الثقافة الغربية بشخصيات راديكالية من وزن سبينوزا، وهايني، وماركس، وروزا لوكسمبرغ، وتروتسكي، وفرويد. وإلى هؤلاء يمكن إضافة أسماء صعدت على نحو خاص في النصف الثاني من القرن العشرين، من وزن حنا أرندت، وبنيامين، ودريدا، وأدورنو، وكانيتي (لا ينبغي أن ننسى كافكا، مواطن كونديرا) لم يجد أصحابها مكانهم بين نماذج دويتشر، الذي حرص على تغطية مراحل زمنية سبقت.
والمهم في الأمر، وبما ينسجم مع فرضية دويتشر الرئيسة، أن القاسم المشترك بين هؤلاء هو التمرّد على الأفكار النمطية والتقليدية السائدة، وإنشاء علاقة نقدية بالواقع أدت في حالات بعينها إلى قلبه رأساً على عقب. فالفلسفة الغربية مدينة لسبينوزا، والقرن العشرون في نهاية الأمر (بكل فلسفاته ونزواته وكوابيسه وحروبه وطموحاته) هو ما صنع ماركس، وفرويد (إضافة إلى دارون، طبعاً) بالمعنى الثقافي والسياسي، وما حاول آخرون ترجمته إلى واقع، أو نقضه بواقع مضاد.
وقد كان هذا جوهر الصراع في أربعة أركان الكون منذ ثورة البلاشفة وحتى سقوط جدار برلين. وفي كل الأحوال، لم يتمكن أحد من الفاعلين في القرن العشرين من تجاهل هؤلاء، ولم ينج أحد من الفاعلين، بالمعنى الإيجابي أو السلبي للكلمة، من التأثر بما صنع هؤلاء.
ومع ذلك، لا ينبغي قبول الخصوصية على علّاتها، دون تحفظات وتوضيحات، ولا يجب الاستسلام لأفكار من نوع الخصوصية اليهودية كجوهر ثابت (وهي بالمناسبة أفكار يتبناها دعاة التفوّق اليهودي والمعادون للسامية في آن)، بل تحليلها على خلفية التحوّلات التاريخية الكبرى التي عاشتها المجتمعات الأوروبية من بداية عهد الانعتاق، وحقيقة أن الراديكاليين اليهود بحثوا عمّا يحررهم من الغيتو، ويمكّنهم من الاندماج في مجتمعاتهم، وهذا يعني:
هدم يهودية حاخامية انعزالية ومغلقة تحول دون الاندماج (كما فعلت اليهودية الإصلاحية)، وتبنى مشاريع راديكالية تماماً تستهدف هدم منظومات سياسية واجتماعية وثقافية تعرقل اندماج أقليات دينية وقومية تعيش بين ظهرانيها، كما فعل الثوريون اليهود بداية من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان من الطبيعي أن تكون نسبة تمثيلهم عالية في كل الأحزاب والحركات السرية والراديكالية التي عرفتها القارة الأوروبية.
يمكن التمثيل لهذا كله، على سبيل المقارنة، ببحث الراديكاليين العرب عن القومية العربية كهوية جامعة، لا عن القومية الإسلامية، في زمن الثورة على إمبراطورية آل عثمان. ويمكن التدليل عليه، أيضاً، بدور المسيحيين في بلاد الشام على نحو خاص في الدعوة إلى القومية العربية، والعمل على تحديث اللغة وآدابها، وفي بعض الحالات تلفيق تاريخ مُفتعل، كما فعل جورجي زيدان لتجميل صورة العرب في التاريخ.
كما ويمكن التدليل عليه، والتمثيل له، في تحليل وتفسير الدور الراديكالي المزعزع الذي مارسه الراديكاليون الفلسطينيون بعد النكبة في العالم العربي، ونسبة تمثيلهم العالية في الحركات القومية واليسارية الراديكالية (دفعوا ثمناً باهظاً عقاباً لهم على هذا الدور، وقد تفرض عليهم تحوّلات كارثية في الواقع المُعاش العودة إلى الدور نفسه في وقت ليس ببعيد). حركة القوميين العرب، مثلاً، تزعمها فلسطينيون، وانتشرت في بلدان عربية مختلفة، وقاتلت في اليمن، وعُمان، إضافة إلى دورها التاريخي في الحركة الوطنية الفلسطينية، والذي أصبح الآن أثراً بعد عين.
المهم، أن الخصوصية اليهودية يجب أن تكون مفهومة، من جانبنا، بما تقدّم من المعاني، لا بالجوهر الثابت، والمعطى السابق، ودون التقليل من أهمية العيش على الحد، بالمعنى التاريخي للكلمة. وأعتقد أن هذا ما كان في ذهن إدوارد سعيد (وهو ابن التقليد الثقافي الغربي بامتياز) حين قال في سنواته الأخيرة في مقابلة ذائعة الصيت مع جريدة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية: "أنا آخر المثقفين اليهود"، وهذا ما اختارته الجريدة عنواناً للمقابلة. كان في ذهنه (وهو الذي شعر دائماً بأنه "خارج المكان") خصوصية العيش على الحد، والرغبة الحارقة في الاندماج، وإشهار الانتماء (بوصفه الفلسطيني الراديكالي هذه المرّة) إلى تقليد وتاريخ طويلَين من نقد ونقض الواقع.
ومع هذا كله في البال، سنعثر في عبارة، تبدو مفتاحية، في كلام كونديرا لحظة قبول الجائزة التي نالها من الإسرائيليين، على ما يُفسّر لماذا أغوته صورة "اليهودي اللا يهودي" بتعريف دويتشر، ولماذا وجد فيها ضالته، وعثر فيها على حلول شخصية وروائية فرضتها تجربة الفشل في التأقلم مع واقع النظام الشمولي، أو عقلنته.
قال كونديرا للإسرائيليين مانحي الجائزة، ومستمعيه، يوم حصوله عليها: إن "إسرائيل هي القلب الحقيقي لأوروبا"، وهي "بمثابة القلب الذي يوجد خارج الجسد". ما معنى هذا الكلام عن القلب والجسد، وكيف يتسنى لنا تكييفه مع سيرته الشخصية، ومسيرته المهنية؟ وكيف يمكننا التدليل على حقيقة أنه يتجلى كقناع لإشكاليات وثيقة الصلة بالجانبَين؟ وهذا وغيره عناوين وأسئلة رئيسة في قراءة لاحقة.