طال الحديث عن أهمية وضرورة الوحدة الوطنية بين التنظيمات والفصائل السياسية. وفي المناخ الشعبي المؤيد والداعم للوحدة عرضت مجموعة من المشاريع والاتفاقات الداخلية والخارجية، لكنها بقيت حبرا على ورق، ووصلت كل المساعي والمحاولات الى طريق مسدودة.
الاخفاق له صلة بمفهوم الوحدة، وبالمبادئ والقيم الناظمة لها، وبالعنصر الاهم وهو انعزال المؤسسة الرسمية والفصائلية والتنظيمية عن المكونات والتجمعات الشعبية وحاجاتها ومصالحها.
ذلك ان الوحدة الوطنية الحقيقية هي وحدة الشعب على أهداف ومصالح، تلك الوحدة التي تكون في الغالب عبر تنظيمات ومؤسسات تتحسس نبض من تمثلهم.
غير أن الشرخ والانعزال العملي بين التنظيمات ومن تمثلهم نظريا، استبدل المصالح العامة والمشتركة بمصالح فئوية للتنظيم عامة وللمستوى القيادي فيه خاصة. يجوز القول، إن الاتفاق على مصالح عامة ومشتركة أيسر بما لا يقاس من الاتفاق على مصالح فئوية تخص النخب التأسيسية المستدامة للتنظيمات.
ولأن الخلاف ينحصر في مصالح النخب، تتعثر الوحدة، ويعلو صوت الانقسام على صوتها، ذلك ان الانقسام يلبي المصالح الفئوية.
هناك على سبيل المثال تنظيمات تتفق في الايديولوجيا وفي البرامج السياسية ولا تتوحد في تنظيم سياسي واحد، السبب يعود الى تضرر مصالح الفئة النافذة من النخبة في حالة الوحدة، ومن أجل الحفاظ على تلك المصالح تستمر التنظيمات المتشابهة منقسمة.
كيف يمكن التغلب على هذا العائق الرئيس الذي يحول دون تحقيق الوحدة الوطنية؟ لقد اخفق الاتفاق الطوعي بين التنظيمات، الذي يغلب المصلحة العامة والمشتركة على المصلحة الفئوية والفردية.
وفي غياب ضغوط من قبل الفئات الشعبية المتضررة سيستمر الاخفاق، ما لم يفرض الاتفاق بإرادة خارجية «عربية»، وفي هذه الحالة قد لا يعمر الاتفاق طويلا، لأنه سيتعرض الى ضغوط واشتراطات خارجية أخرى.
بعض النشطاء المهتمين دعوا إلى عقد «مؤتمر تأسيسي للفلسطينيين» مهمته «ترميم الوضع الفلسطيني»، بإعادة تعريف الاجماعات الوطنية والاهداف السياسية، وإعادة تفعيل منظمة التحرير ومؤسساتها على مرتكزات وطنية وتمثيلية وديمقراطية.
ما يفهم من مؤتمر كهذا، هو تدخل بعض النخب المستقلة في إعادة بناء المنظمة أخذا بالتحولات الكبيرة التي تجاوزت الصيغة التمثيلية.
هذا المسعى لن يكتب له النجاح إذا لم يرتبط ببناء قوى وحركات اجتماعية ذات وزن قادر على التأثير في مراكز القرار، وإذا لم يؤسس لديناميات تغيير نابعة من المصالح الفعلية للفئات العريضة التي لها مصلحة في التغيير.
ذلك ان كل محاولات الشخصيات المستقلة – من فوق- التي تفتقد الى سند اجتماعي ذي شأن، والتي تبحث عن حصة أكثر من بحثها عن حل للأزمة العامة، ذهبت ادراج الرياح. حتى الان لا توجد مجموعات ضغط جدية منبثقة من أصحاب المصلحة في التغيير.
وفي غياب التدخل من قلب مخيمات الخارج المنكوبة مجددا وما يناظرها من القوى المهمشة والمحاصرة في المخيمات والمدن والقرى داخل الوطن، وفي غياب مستوى ثقافي ينزل من عليائه ويفتح على قوى التغيير الافتراضية. في غياب هذه المقومات وهي غائبة فعلا، سيبقى النظام الفلسطيني على حاله، حتى وإن اضطر التنظيمان والسلطتان لابرام صفقة تنهي الانقسام شكلا وتبقيه فعلا.
في ظل الانسداد المزمن، يكتسب الحوار أهمية كبيرة في التمهيد والاقتراب من الوحدة الوطنية، والمقصود بالحوار ليس
الوقوف في منتصف المسافة بين موقفين أو وسط مجموعة من المواقف باسم القاسم المشترك الاكبر والاصغر.
الحوار يعني وضع الصيغة التي تلبي مصلحة الاكثرية الراجحة (الثلثين) من مجموع مكونات الشعب الفلسطيني والتخلص من عوائق الارث الايديولوجي والسياسي والتنظيمي.
هل تصلح مقولة، «فلسطين بكاملها أرض وقف إسلامي» لا يجوز لاي طرف التعامل معها بغير ذلك، هل تصلح هذه المقولة التي تتبناها قوى الاسلام السياسي كأساس للوحدة الوطنية، ولتحقيق الاهداف وانتزاع الحقوق في المدى المباشر والمتوسط وحتى البعيد.
وإذا كان الجواب، لا تصلح، فهل يجوز تخوين وتأثيم كل من يتجاوز ذلك ويوافق على قرارات الشرعية الدولية وتحديدا قرار التقسيم 181، وقرار 242، والقبول بإقامة دولة فلسطينية على جزء من الارض الفلسطينية.
هل يجوز تخوين كل الذين وافقوا على الحل الدولي للقضية الفلسطينية وهم: «منظمة التحرير والمجلس الوطني، ونخب واسعة من الطبقة الوسطى والبرجوازية، والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة ولجنة المتابعة العربية والكتلة العربية في الكنيست وغيرهم»، فضلا عن الدعم العالمي وكل المنظومات الاقليمية بما في ذلك جامعة الدول العربية.
هذا الموضوع الايديولوجي يحتاج الى حسم ووضوح، لا باعتباره برنامجا خاصا بقوى دينية، بل باعتباره برنامجا سياسيا مشتركا يٌخوَّن كل من لا يلتزم به، ويلتزم بوضعه كمهمة مفتوحة الى ما لا نهاية ولاجيال متعاقبة.
وكأن الشعب ليس بحاجة الى حل قابل للتحقيق اويملك مقومات حل واقعي غير مطلق. إن الاتفاق حول الوطنية والخيانة، يعادل الاتفاق على برنامج وأهداف وطنية قابلة للتحقيق.
لا يجوز ترك مسألة الوطنية والخيانة ملتبسة وتحتمل اكثر من فهم وبلا معايير وطنية مشتركة وملزمة في التعبئة الداخلية والخارجية، من المفترض ان يكون لدينا معيار مشترك للاكثرية ملزم للجميع مع حرية وجود رؤى خاصة لكنها غير ملزمة، إلا إذا حازت موافقة الاكثرية المطلقة، بأسلوب ديمقراطي حر بعيدا عن الترهيب، وبناء عليه لا يمكن تحقيق وحدة وطنية لا تحدد معيارا مشتركا وملزما للوطنية، وهو ما نفتقد اليه.
القضية الثانية التي تشكل عقبة أمام الوحدة الوطنية وتحتاج الى معالجة هي: امتلاك الحق في التكفير ومن تجليات ذلك طرح شعار انتخابي: «صوتك أمانة ستحاسب عليه يوم القيامة»، «ومن ينتخب علمانيا او يساريا يعتبر نوعا من الكفر»، «التحريض ضد الديانات الاخرى في الخطاب الديني وعبر العديد من المساجد»، «وتحريم أنواع عديدة من الفنون كالسينما والرقص الشعبي والمعاصر والتماثيل والغناء»، وتحريم الاختلاط بما في ذلك وجود ذكور في هيئات التدريس في مدارس الاناث وبالعكس».
وكل هذه العناوين تندرج في بند التكفير والتحريم الذي يتم توظيفه في تعزيز ودعم وتثبيت سيطرة سياسية دائمة، متناقضة مع الديمقراطية ومع مبدأ التداول السلمي لمواقع القيادة والسلطة، ومتناقضة مع الدولة والمؤسسة المدنية التي تخضع للمحاسبة والنقد والتغيير والتبديل، ومكرسة للدولة والمؤسسة الدينية التي تضع نفسها فوق النقد وغير قابلة للمحاسبة والتغيير والتبديل.
ضمن هذه المعادلة لا يمكن تحقيق وحدة بين «كفار» و»مؤمنين» يتم تصنيفهم من طرف واحد هو «التنظيمات الدينية» والمرجعيات والمؤسسات الدينية التابعة لها.
والحل هو حظر التكفير والتحريم من قبل قوى الاسلام السياسي وأية قوى دينية غير سياسية، كما حدث في التجربة التونسية التي لم تتحقق الوحدة الوطنية على قواعد ديمقراطية ولم يتحقق السلم الاهلي، إلا بعد نزع صلاحية التكفير والتحريم من كل الاطراف.
وهناك معيقات اخرى سأتابع عرضها.