يكشف تاريخ الدولة العبرية وحاضرها عن انقسامات حادة وعميقة، الأمر الذي يجعل من فكرة الهوية المتجانسة مسألة تحتاج إلى بحث معمق، وتضع علامة استفهام كبيرة حول المزاعم الصهيونية في نجاحها في خلق القومية اليهودية الديمقراطية.
ولعل أبرز هذه التصدعات التي يعاني منها المجتمع الصهيوني هو الصدع الديني والعلماني، فقد هدفت الصهيونية إلى إقامة دولة قومية علمانية، وهو ما أفضى بالضرورة إلى صراع حاد مع الجماعات الدينية المتزمتة التي رفضت الصهيونية وخطابها من حيث المبدأ، ومع الوقت اضطر التيار الديني إلى الانخراط في الحياة السياسية في محاولة للتأثير على قرارات الدولة وثقافة المجتمع، ومع تنامي المعسكر الديني في إسرائيل تولدّ قلق في أوساط العلمانية المهيمنة على الدولة، من تزايد تأثير الخطاب الديني وهو ما ولدّ توترات دائمة وصراعات متواصلة منذ إقامة الدولة وحتى الوقت الراهن.
وهذا التخوف زاد حدة بعد صعود التيار الديني الصهيوني الراديكالي في الانتخابات الخامسة والعشرين التي عقدت في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر2022، والتي أدت إلى تشكيل الحكومة الإسرائيلية السابعة والثلاثين -بقيادة الثلاثي المتطرف بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة وإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش- والتي حصل بها التيار الديني على نسبة برلمانية تجعله قادرًا على المنافسة وإحداث تغيير جذري على المستوى الداخلي الإسرائيلي وتحديدًا على بنية الجيش الإسرائيلي، وعلى طبيعة العلاقة مع السلطة الفلسطينية، والصراع مع الفلسطينيين، ومستقبل الضفة الغربية والقدس، وحتى العلاقات الإقليمية الدولية.
وهذا ما تأكد في محادثة جرت بين رئيس الشاباك رونين بار ونتنياهو في 23آذار/مارس2023، ناقش الطرفان خلالها زيادة التهديدات الأمنية إلى جانب الصدع في المجتمع الإسرائيلي، وقال بار لنتنياهو في الاجتماع إن تقارب التهديدات يؤدي بدولة إسرائيل إلى مكان خطير، ليست هذه هي المرة الأولى التي يحذر فيها بار نتنياهو من التهديدات الأخيرة.
وعلى نفس المنوال، عبر وزير الجيش يوآف غالانت عن رغبته في وقف التشريع القضائي، كما قدم رئيس الأركان هيرتسي هاليفي مواد استخباراتية إلى نتنياهو مع تحذيرات كثيرة.
وفي نفس السياق، كشف الموقع العبري سروجيم في 8آب/أغسطس 2023، عن تعمق أزمة الانقسام في المجتمع الإسرائيلي بعد مرور ما يقارب من 8 أشهر من الخلافات بين مؤيدي التعديلات القانونية وبين معارضيها وما تخللها من احتجاجات رافضة للانقلاب القانوني. وعبر 46% من المستطلعة آرائهم عن رفضهم حتى لفكرة تشكيل حكومة طوارئ وطنية تتمثل باستبدال الأحزاب الصهيونية بأحزاب الوسط. أما فيما يتعلق بالمزاج الشخصي فقد عبر 67% من مؤيدي أحزاب المعارضة عن تشاؤمهم من مستقبل النظام "الديمقراطي في إسرائيل".
ورغم الصراع الداخلي على مفهوم الهوية، تؤكد أغلب التكوينات المجتمعية اليهودية، على ضرورة ضمان الهوية اليهودية للدولة، رغم الفجوة الكبيرة، غير القابلة للجسر بين مكونات المجتمع، والتي تشير حال استمرارها، إلى تكريس الشرخ القائم رغم محاولات قادة الجيل الثالث أسرلة المجتمع ويعني أن يصبح المجتمع إسرائيليًا سياسيًا واقتصاديًا وإلى حد ما ثقافيًا، ودمج الهويات المتباينة، والتخفيف من حدة التباين.
وعلى كل حال، ساهم تباين الهوية في إسرائيل، في تعقيد الموقف من الصراع وملف التسوية، وحال دون بلورة موقف إسرائيلي موحد تجاهها، وفي هذا الإطار، يمكن استعراض أهم الهويات في المجتمع الإسرائيلي، على النحو التالي:
هوية اليهود الشرقيين: لقد شكلوا هامشًا مجتمعيًا ثقافيًا، وذلك بسبب ارتباط فكرة الصهيونية السياسية بحل مشكلة يهود أوروبا، ولذلك تم استيعاب اليهود الشرقيين، بطريقة تضمن عدم المس بالثقافة الإسرائيلية الأشكنازية وبأسس النظام الاجتماعي والسياسي للدولة، وقد تركت هذه السياسية أثرها على السلوك الاجتماعي والسياسي للشرقيين.
ارتبط السلوك السياسي لليهود الشرقيين بمفهوم القوة وعدم الثقة بالغير، كما مثل لهم تأسيس حزب الليكود، بصفته الجناح اليميني القومي في الحركة الصهيونية، ملاذًا آمنًا في مواجهة سياسة الأشكناز العنصرية، وفرصة لممارسة السلوك الاحتجاجي على طريقة الاستيعاب القائمة على التمييز والغبن بحقهم، فقد مكنهم حزب الليكود، من تبوؤ مناصب هامة في قيادته وبالتالي في الدولة، كما سعى الشرقيون لإنشاء أحزاب قومية متطرفة، وتبني مواقف سياسية واجتماعية مبالغ في قوميتها، للتأكيد على عمق الانتماء للصهيونية والدولة اليهودية، إضافة إلى رغبتهم في أن تقوم هذه الأحزاب بطرد المواطنين العرب.
فقد طور الشرقيون هويتهم السياسية، منذ أوائل السبعينيات من خلال انتفاضة الفهود السود، وتمرد صناديق الاقتراع سنة ١٩٧٧، تلاه تأسيس حركة شاس، والتي عبرت عن هوية شرقية بحلة دينية، وترجمت مواقفهم، تجاه القضايا الداخلية، وقضايا التسوية والصراع.
نجحت حركة شاس في تثبيت موقع لليهود الشرقيين على الخارطة السياسية والاجتماعية للدولة، وأصبح من الصعب تجاوز مواقفها من القضايا الأساسية، خاصة ما يتعلق منها بعملية التسوية والمفاوضات، وتعاظمت قوتها في انتخابات سنتي 1996و1999، والتي كشفت عن زيادة حدة الاستقطاب، حيث برزت أحزاب قومية شرقية منافسة لشاس، وصوت أغلب اليهود الشرقيين لهذه الأحزاب، وفي هذا ما يشير إلى أن تراجع نفوذ حركة شاس، وانخفاض عدد مقاعدها في الكنيست، كما حدث في الانتخابات التي جرت سنة ٢٠١٥، لا يعني تراجع نفوذ اليهود الشرقيين في الحياة السياسية، بقدر ما يشير إلى خلافاتهم على طريقة العمل.
أدرك دافيد بن غوريون في وقت مبكر أن جلب مئات الآلاف من اليهود المهاجرين من الدول العربية والإسلامية يعني نقل أنماط حياة ثقافية واجتماعية مختلفة تمامًا عن الأنماط الغربية التي خططت الحركة الصهيونية لصبغ حياة الدولة الوليدة بها؛ ونقل عن بن غوريون قوله في اجتماع خاص في أعقاب وصول اليهود المهاجرين من الدول العربية "نحن لا نريد أن يتحول الإسرائيلي إلى عربي"، وخشي بن غوريون أن تؤدي التباينات الثقافية والاجتماعية إلى حالة من الاستقطاب والصراع الإثني بين الشرقيين والغربيين، فبلور ما عرف باستراتيجية بوتقة الانصهار، التي هدفت إلى صهر جميع الثقافات التي جلبها اليهود معهم في بوتقة واحدة، بحيث تنشأ ثقافة إسرائيلية واحدة.
وذلك من خلال تنفيذ سلسلة من الإجراءات أبرزها استخدام الجيش للتجنيد الإجباري، وتوحيد مناهج التعليم لخلق ثقافة مشتركة، واقرار اللغة العبرية ونشرها لخلق قاسم مشترك، وتلقين الصغار والكبار مبادئ الحركة الصهيونية.
هوية اليهود الروس: يشكل المهاجرون الروس إلى إسرائيل أكبر جماعة إثنية، رغم اختلاف الانتماء الديني والثقافي، والتنوع الطبقي والمهني والتعليمي، ويصر هؤلاء على العيش في عزلة ورفض الانصهار في المجتمع، والمحافظة على هوية ثقافية خاصة، أما سياسيًا فقد ترجموا توجهاتهم الإثنية، بتشكيل أحزاب سياسية، عبرت عن رؤيتهم للقضايا العامة، وشكلت ثقلاً سياسيًا واجتماعيًا، مواز لثقل الأشكناز، في سلوك مغاير لما يجب أن يكون عليه الأمر، نظرًا للتقارب الفكري العلماني بين الطرفيين وقد عبرت الأحزاب الروسية عن مواقفها القومية المتشددة، خاصة الموقف من الفلسطينيين.
فقد عزز المهاجرون الروس من التوجهات القومية الراديكالية، وأعطوا ثقلاً للمعسكر المعادي للسلام، وعمقوا من الأزمة مع الفلسطينيين، وبدا هذا التوجه واضحًا في المواقف المتشددة من الفلسطينيين في إسرائيل، ومن عملية التسوية، عند كل الأحزاب التي مثلت المهاجرين في العقدين الأخيرين، خاصة حزب إسرائيل بعلياه، وحزب إسرائيل بيتنا الذي انفرد بالتشدد القومي، بعد أن اندمج حزب إسرائيل بعليا في حزب الليكود وذاب فيه. وعطفًا على ما سبق، يمكن القول بأن المهاجرين الروس، رغم علمانيتهم، ساهموا في تعزيز قوى اليمين والتطرف المعادية للسلام، بالحد الذي عرقلوا عملية التسوية، وقللوا من فرص التوصل إلى حل.
هوية المجتمع الحريدي: الحريديم طائفة يهودية أصولية متطرفة، تطبق الطقوس الدينية وتعيش حياتها اليومية وفق التفاصيل الدقيقة للشريعة اليهودية. ينقسم المجتمع الحريدي إلى فرق ومذاهب ومن بين تلك الفرق تبرز ثلاث: الحسيديم والليتوانيون والسفارديم (الحريديم الشرقيون). بدأ تأثير القوى الدينية الحريدية، بالظهور أواسط سبعينيات القرن الماضي، حيث ارتبط عمليًا بظهور حركة غوش أمونيم وفوز حزب الليكود لأول مرة في الانتخابات، وتشكيله للحكومة، ما اعتبر حينها بالانقلاب الكبير في توجهات المجتمع الإسرائيلي، وقد تبنت القوى الحريدية، سياسات يمينية عنصرية، عبر عنها قادة غوش إيمونيم، ومعظمهم شخصيات مؤثرة في التيار الديني السائد في حينه، حيث طالب هؤلاء بربط الحياة العامة والسياسات، بالشريعة اليهودية، خاصة فيما يتعلق بالأغيار الفلسطينيين، تطبيقًا لثقافة غوش أمونيم.
تعاظمت في العقدين الأخيرين، مسألة تدين أفراد المجتمع الإسرائيلي، وتعزز الخطاب الديني فيه، وقد تجلت صوره في ازدياد تأثير المعسكر الحريدي، على عملية اتخاذ القرار السياسي في البرلمان والحكومة، ورغم أن المجتمع الحريدي، يمثل ما نسبته نحو 13.6٪ من السكان، إلا أنه يتمتع بتأثير واضح، ينبع من التقدير العام الذي يوليه اليمين، للماضي اليهودي، وقناعته بأن لليهود حق تاريخي في إسرائيل، ولهذا، استطاع الحريديم، الانتقال من هامش المجتمع، إلى مركزه، وزادت المشاركة في العمل، خاصة مع التكاثر الطبيعي للحريديم، والزيادة المدهشة في عدد طلاب اليشيفاه، ومع هذا التوسع زاد التوتر والتناقضات الداخلية بين مجتمع الحريديم وبقية شرائح المجتمع الإسرائيلي، خاصة بعد تضاؤل الفروق بين المعسكر الحريدي والمعسكر القومي الديني، لتصبح نسبة المتدينين من عدد السكان، ما يقارب٢٢٪.
يعود تعاظم دور المتدينين، إلى الصراع الحاد بين الدين والدولة، فالتصدع الديني هو أحد أسباب تزايد قوة الأصولية اليهودية، إضافة إلى دور المضامين الدينية المؤثر في نشأة اليمين، الذي تعزز بعد الدخول في المفاوضات، حيث كانت غالبية المحتجين على أوسلو، من المتدينين، كما عمل الحريديم على عرقلة تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين إسرائيل والفلسطينيين، فقد وقع مجلس كبار علماء التوراة سنة ١٩٩٨، عريضة رفض تنفيذ اتفاقية إعادة الانتشار الثانية، وبدأ حملة تحريض داخل الجيش، للامتناع عن تنفيذ أي إخلاء لأراض في الضفة الغربية.
فضعف القدرة على مواجهة الخطاب الديني، يرتبط بكون الحركة العلمانية مشبعة تاريخيًا بممارسة خطاب ديني عميق، لتبرير مشروع القومية، فقد تخلقت ثقافة سياسية في أوساط اليمين القومي والعلماني المتعصب، علت على جميع الفوارق الإثنية والطبقية، وهذا ما ساهم في سهولة تغلغل المتدينين في المؤسسات الرسمية، وساعد على سيطرة رجال الدين على كثير من المفاصل المهمة، ومكنهم من سلطة الحسم والترجيح في القضايا المفصلية والمصيرية.
ويرى العلمانيون في نمو التيار الديني مجرد عبء على الدولة والحياة الاقتصادية، فهم لا يخدمون في الجيش، ولا يساهمون في العملية الإنتاجية، وفوق كل ذلك يتلقون موازنات كبيرة على حساب الجمهور العلماني. في حين أنهم يتهمون العلمانيين بأنهم بعيدين عن الدين اليهودي، ويشكلون خطرًا على اليهودية، والمؤسسة الدينية الأرثوذكسية تحتكر لنفسها تعريف من هو اليهودي، وتتحفظ على منح صفة اليهودية لعشرات وربما لمئات الألوف من المهاجرين، خاصة المهاجرين الروس والأثيوبيين.
أما الصدع الآخر الذي لا يقل أهمية عن الصدع الديني العلماني يتمثل بالانقسام الإثني بين المستوطنين والمهاجرين في مجتمع الدولة العبرية، وتعود أسباب هذه الانقسامات والتوترات إلى تعدد الأصول الإثنية والثقافية لهؤلاء المهاجرين، فضلاً عن توافدهم في فترات مختلفة طوال أكثر من قرن من الزمان، وهو ما ولدّ مجموعات هجينة غير متجانسة، وأبرز هذه الصراعات بين اليهود الأشكناز الغربيين وبين اليهود الشرقيين في ظل الهيمنة الأشكنازية على الدولة، ومحاولة محو وطمس الثقافات والهويات الأخرى، وتهميش بقية الفئات والجماعات الإثنية.
كما وأدى هذا الصراع إلى تنصيب حاخام للشرقيين وحاخام آخر للأشكناز الغربيين. ولم تقتصر هذه التصدعات الإثنية على اليهود الشرقيين والغربيين، بل تعدتها لتشمل كافة الجماعات اليهودية: الروسية والأثيوبية والآسيوية، وأمريكا اللاتينية، وغيرها من الإثنيات إلى جانب الصراع اليهودي العربي الفلسطيني بصيغته القومية.
ثمة صدوع وانقسامات أخرى في الدولة العبرية تأخذ شكل هويات متعددة، وإن كانت ذات طبيعة طبقية وأيديولوجية وسياسية وهويات أخرى ارتباطًا بتحولات عالمية وآثارها على المجتمعات كافة، وخاصة المجتمع الاستيطاني الصهيوني. فعلى الصعيد الطبقي على سبيل المثال بلغت حدة معدلات الفقر مستويات قياسية في إسرائيل حيث وصلت نسبة الفقر عام 2016 إلى 22% ويبلغ عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت خطر الفقر قرابة 1.7مليون شخص، وهو ما يولد مجموعة من الأزمات، حيث يتركز الفقر لدى المجموعات الشرقية من المتدينين والعرب. إن هذه التصدعات المتنوعة بشأنها أن تتنامى وتعكس نفسها على مجمل الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتؤدي في النهاية إلى أزمات قد تصل إلى حد التعبير عنها بوسائل عنفية بعد فشل سياسة بوتقة الصهر، والفشل في تصنيع الهوية اليهودية الصهيونية الديمقراطية الإسرائيلية.
وبعد مرور أكثر من سبعة عقود على إقامة الدولة العبرية، لم تنجح إسرائيل في بناء الهوية اليهودية على أساس قومي، وفشلت كافة المحاولات الرامية إلى خلق شعب يهودي أو أمة يهودية متجانسة، فالمدن والمستوطنات والبلدات والأحياء اليهودية في إسرائيل تعكس هذا التشظي والانقسام في الهويات المتنوعة، وباتت وظيفة الدولة تتمركز في إدارة التصدعات والصراعات والتناقضات القائمة بين المجموعات الإثنية المختلفة، وقد تتطور هذه التناقضات لتصل إلى صراعات عنيفة، وتتزايد مؤشرات هذا الاحتمال في ضوء الأزمات التي تشهدها الدولة في السنوات الأخيرة، ومن المحتمل أن تتفاقم مثل هذه الصراعات في حال تعرضت إسرائيل لأزمة اقتصادية كبيرة.