دأبت الدبلوماسية الفلسطينية على الإشادة بمواقف الدول العربية عامة من القضية الفلسطينية، ولم تجنح حتى الآن للمناكفة أو الانجرار لحالة التشكيك بالدول أو قياداتها، أو إظهار العداء رغم بعض المواقف المخالفة للسياسة الفلسطينية الرسمية، أو المتضاربة أو المثيرة مثل ما حصل من قرار عدد من الدول التعامل مع مبادرة الملك عبدالله التي أصبحت المبادرة العربية عام 2002 بالمقلوب إي من الياء الى الألف، وليس كما جاءت من الألف الى الياء حيث أن الألف هو تحقيق استقلال دولة فلسطين، وليس الدخول مع اسرائيل في اتفاقيات "ترامب-ابراهام" كما حصل.
الدبلوماسية الفلسطينية الثقيلة في تعاملها الحريص الى حد الصمت أحيانًا عن كثير من الفواجع مع الدول المختلفة، هو تأكيد صارم منها بالحفاظ على الأبواب المفتوحة مع الجميع ، فإن كنا لا نتفق مع مواقف هذه الدولة العربية أو تلك غير العربية، فلمَ لا يبقى الباب مفتوحًا! وفي النهاية سيدخلون المسجدَ سُجّدًا.
العقل الجذري لايقبل الانحراف عن الطريق المستقيم والهدف الأكبر، لكن العقل العملاني (البراغماتي) يعي الظروف ويكتم المجاهرة بالخلاف ويرى شوارد النور من دامس الظلام. والصراع بينهما طويل ومستمر وقد يتغلب أحدهما على الآخر حسب عوامل القوة القائمة.
الدبلوماسية الفلسطينية حققت نجاحات مشهودة على الصعيد العالمي التي لربما كان أبرزها اعتراف العالم بفلسطين دولة مراقب في الأمم المتحدة عام 2012 وأيضًا قرار مجلس الأمن (الملزم) 2334 للعام 2016 حول المستعمرات (المستوطنات)، إضافة لقرارات اليونسكو ومنظمات حقوق الانسان المؤيدة لفلسطين وغيرها. وهي ما كانت لتتم لولا المجموعة العربية بالتأكيد.
النجاحات المشهودة لفلسطين في المحافل الدولية ومع الأوروبيين، لم تمنع فلسطين من الاهتمام بالأمة العربية دولًا وشعوبًا فهي الحاضنة الطبيعية والتاريخية والجغرافية والحضارية التي لا غنى عنها أبدًا، حيث وقفت فلسطين الى جانب أخوتها دومًا ضد ما يعيق مصالحهم وتطورهم ونموهم.
ظلت القيادة السياسية الفلسطينية مؤمنة بأهمية الدفق العربي الذي هو شريان الحياة لفلسطين العربية، والتي هي أي فلسطين قلب هذه الأمة النابض رغم تخلخل الدعم العربي السياسي كثيرًا وأحيانًا توقف القنوات عن التواصل. إضافة الى انقطاع الدعم المالي منذ أكثر من أربع سنوات عجاف والذي أدى للعجز المالي الفلسطيني المتواصل.
مما لا شك فيه أن مستوى التركيز والانتباه للقضية الفلسطينية قد خفت كثيرًا جدًا منذ أطلق ترامب صفعته للعصر (اتفاقية ترامب-ابراهام) وما كان منذ ذلك التاريخ من تراجع فظيع في مستوى التعامل مع القضية الفلسطينية لاسيما واللا المتكررة للرئيس محمود عباس قد لطمت خد "ترامب" وإدارته، والإدارة الاميركية المتصهينة لمرات عديدة.
الإسرائيليون مرتاحون في حضن تطرفهم وواقع احتلالهم الذي يتوهمون بأبديته، وهو ما لن يكون لأن صيرورة التاريخ زوال الاحتلال بإذن الله وهِمّة الثوار.
على عكس مباديء الدبلوماسية العربية المعتمدة تجاه فلسطين فإن بعض الدول العربية ركضت نحو الصهيوني إرضاءً للأميركي كما قد يرى البعض، وربما في نظرة تُعطي لمصالحها الأولوية على القضية المركزية التي اعتبرتها ثانوية كما ترى، لكن لتكتشف مؤخرًا مدى تسرعها وخلل انخراطها في اتفاقيات "ترامب-ابراهام"، ولكن الأوان لم يفت بعد .
الى ما سبق تقف المملكة العربية السعودية موقفًا متميزًا حيث الإشارات الكثيرة المعاكسة للطرح الصهيوني والإشارات الكثيرة على جدّية المملكة في الاحتفاظ بدعمها الكامل للمبادرة السعودية العربية للملك عبدالله تجاه فلسطين، وهو ما قد يفهمه المراقبون بتعيين سفير للمملكة في فلسطين وقنصل بالقدس تأكيدًا على عروبة المدينة واسلاميتها، وعلى أصالة الموقف العربي السعودي.
الأصوات الصهيونية وعدد من التحليلات تصر على أن السعودية اليوم ليس هي السعودية إبان حكم الملك عبدالله صاحب المبادرة، لذلك يقولون: لا تتوهموا بأنها ستقف مع فلسطين كما كان دأب المملكة طوال تاريخها.
وتفيد هذه التحليلات أن العلاقات الأمنية السعودية- الاسرائيلية قائمة ومتواصلة منذ زمن، والاتجاه نحو الانخراط في اتفاقيات "ترامب-ابراهام" الاستتباعية قائمة على قدم وساق ووشيكة لا محالة، وبانتظار التوقيت المناسب. وكل ما يحتاجه الأمر هو غلاف أو غلالة تستر السعودية بها جسدها في مواجهة أمة العرب والمسلمين لتقول أنها بذلت جهدها من أجل فلسطين، كما قال المراوغ الكبير "نتنياهو" بما معناه.
الأصوات المشككة تصرّ على أن كل المباحثات التي تقوم في الإطار السعودي الأميركي والأميركي الإسرائيلي بل والأميركي العربي تأتي من أجل جرّ المملكة العربية السعودية الى حيث النحر، أي الى مربع اتفاقيات "ابراهام-ترامب" وبالتالي تفقد الامة آخر قلاعها الحصينة مع القضية الفلسطينية.
نحن لا نشك أن المفهوم الأمني الأميركي واضح المعالم بتسييد الاحتلال الإسرائيلي فوق كل دول وزعماء الأمة، فلن تكون الغلبة والسيادة والسيطرة الا للإسرائيلي فقط، وما السعي الأميركي الا باتجاه سيطرة الإسرائيلي وسرقة النفط لاغير.
إن المسعى الأميركي-الصهيوني يلقى كما يبدو المقاومة الشديدة من الدول العربية حتى تلك التي يصفها بعض المراقبين أنها ضمن الملعب الأميركي تاريخيًا وحتى من بعض الدول التي وقعت على "ابراهام ترامب" لذلك تأتي عدد من الخطوات الاقترابية السعودية باتجاه الأميركي فيما يقابلها من خطوات تجاه العربي الفلسطيني، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالخطوات العربية من الدول الأخرى ومن هنا كانت الدبلوماسية الفلسطينية دبلوماسية تريّث ودأب صعب جدًا، بل ومتعب، وربما مراكمة كثير من العوامل ليكون بنتيجتها زحزحة مواقف دول نحو مساحة أقرب من فلسطين على حساب الابتعاد عن الأميركي بسعيه لزعامة الإسرائيلي على المنطقة.
إن الدبلوماسية الفلسطينية التي تتلقى الضربات أحيانًا من الصديق إضافة لما لا يحصى من ضربات من العدو باعتقادي ثابتة بحرصها على العلاقات العربية، وتريثها باتخاذ المواقف رغم المؤشرات الكثيرة التي قد تحمل معنيين ما يجعل الانسان العادي لا يفهم حقيقة الدفقات المتناقضة.
إن الإشارات الايجابية على ثبات الموقف السعودي من القضية الفلسطينية تعزز مكانتها العربية والإسلامية، بل والعالمية، وتؤهلها لتصدر المشهد بالمنطقة كقوة عربية وإقليمية يجب أن تتقاطع بفعلها مع "مجموعة العلمين الثلاثية"، ومع حقيقة المسعى والدبلوماسية الفلسطينية على طريق التكامل العربي في مختلف القضايا.
لن يقل إيماننا بالأمة العربية بتاتًا فهي الحائط والسند مهما كان الاختلاف مع جملة مواقف أوسياسات بعض رموزها، ومهما كانت القضايا معقدة والضغوطات لا تُحتمل، فالاستراتيجي لا يجعل من التكتيكي يقفز عاليًا ليحطمه ويحل محلّه.