كان يمكن أن يُطرح هذا السؤال على الشكل التالي:
هل هناك لهذه الحرب من نتيجة وصلت إليها لكي يبدأ الحلّ السياسي؟ وما هي هذه النتيجة التي أصبحت تُوجِب الانتقال إليه؟
دعونا نبدأ من الإشارات «الغربية» أوّلاً.
هناك اتفاق كبير بين دُول «الغرب» كلّه أنّ «الهجوم» المضادّ، الذي طالما عوّل عليه هذا «الغرب» في تغيير واقع ومسار واتجاه هذه الحرب، قد فشل فشلاً ذريعاً ومُدوّياً.
وإذا كان بعض هذا «الغرب» قد حاول - بصورة يائسة وبائسة - أن يجد لنفسه أوّلاً، ولنظام الدمية في العاصمة الأوكرانية كييف، عذراً هنا وعذراً هناك، فقد أقلع الآن عن هذا التبرير، وسلّم بالأمر الواقع، وبات يصطفّ إلى جانب أغلبية دول «الغرب» بأنّ فشل الهجوم ليس «فنّياً»، وإنّما فشل إستراتيجي لا تستطيع منعه أيّ وسائل فنّية أو عسكرية.
و»الغرب» اليوم بات على قناعةٍ أنّ الخسائر التي تكبّدها الجيش الأوكراني في العدّة والعتاد لا يستطيع «الناتو» تعويضها، لسببٍ بسيط وواضح وضوح الشمس وهو الانهيارات الكبيرة في صفوف القوات، واستحالة حشد المزيد من الأعداد التي يتطلّبها أيّ هجوم جديد، واستحالة ضمان إحراز أيّ تقدّم حقيقي في مسار الحرب في أوكرانيا دون أن تدخل قوات «الناتو» البرّية مباشرة في هذه الحرب، وهو أمرٌ ليس بمقدور «الغرب» أن يُقدِم عليه، لأنّ نتائجه معروفة ومُعلنة بأنّ روسيا في هذه الحالة ستلجأ إلى تدمير هذه القوات فوراً بالوسائل العسكرية غير التقليدية، بما فيها الأسلحة النووية.
أمّا الإشارات الأخرى فقد كانت واضحة في أحاديث «الغرب»عن فساد نظام زيلنسكي أن ينضبط بالكامل لقواعد «الغرب» في «إدارة» هذه الحرب.
«الغرب» نفسه هو الذي بدأ بالونات الاختبار حول طبيعة الحلّ، وحول إمكانيات التوافق «الدولي» عليه.
إذا استثنينا، مؤقّتاً، ما صرّح به ساركوزي مؤخّراً، واستثنينا ما يقوله الجنرالات في «الناتو» عن ضرورة البحث بأسرع وقتٍ ممكن عن حلّ سياسي قبل «الانهيار» التام، فإنّ أهمّ بالونات الاختبار، التي صرّح به «مصدر مسؤول» في الاتحاد الأوروبي إمكانية استبدال المقاطعات الخمس بقبول روسيا لانضمام ما «يتبقّى» من أوكرانيا إلى عضوية «الناتو».
يعتقد «الغرب» أنّ هذا «الحلّ» بقدر ما هو «مؤلم» للقيادة الأوكرانية، فإنّه ضروري لضمان حماية وبقاء أوكرانيا، خصوصاً أنّ المقاطعات الخمس هي أصلاً ناطقة بالروسية، وهي أصلاً كانت وما زالت في وضع «المستهدفة» من النظام القومي في أوكرانيا، والذي ما زالت روسيا تصرّ على تصنيفه ووصفه بالنازية الجديدة.
ويعتقد «الغرب» أنّ بالون الاختبار هذا يمكن أن يشكّل نوعاً من «الإغراء السياسي» للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ليس مهمّاً فيما إذا كان الرئيس بوتين «سيأكل» الطُعْم الذي يقدّمه «الغرب»، والذي وصفه أحد السياسيين الروس بـ»الكمين» السياسي، وليس مهمّاً حتى ما قاله الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي أنّ الحلّ الوحيد هو التفاهم مع روسيا وليس محاربتها، بل وليس مهمّاً ما يقوله الجنرالات في «الناتو» من ضرورة الإسراع نحو حلّ سياسي قبل فوات الأوان.. وذلك لأنّ الأهمّ ما يقوله الروس، وما سيقوله رئيسهم بوتين، وما ستجمع عليه القيادة الروسية.
من حيث المبدأ، فإنّ روسيا الدولة والقيادة والمجتمع هم، أيضاً، بحاجةٍ إلى حلّ سياسي، وهم على قناعةٍ تامّة بأنّ هذا الحلّ هو الأفضل من «الحسم» العسكري، وأنّ روسيا مطالبة بكلّ واقعية بمراعاة «ماء الوجه» لـ»الغرب» وعدم إعطاء المتطرّفين في «الغرب» مزيداً من فرص التصعيد.
لكنّ روسيا تدرك أنّ انهيار أوكرانيا ليست سوى مسألة وقت، وأنّ «الغرب» لم يكن أبداً ليبحث عن «حلٍّ» سياسي لولا معرفته، ولولا تيقّنه بالكامل من هذه الحقيقة.
روسيا تدرك، أيضاً، أنّ اللجوء إلى القانون الدولي، وإعطاء سكّان المقاطعات الخمس - حتى بإشرافٍ تام من قبل الأمم المتحدة - الحق بتقرير مصيرهم بأنفسهم بالوسائل القانونية المعمول بها بموجب القانون الدولي، ستكون نتيجته الحتمية التوجّه إلى الانضمام الفوري للدولة الروسية، وأنّ روسيا من هذه الناحية في أفضل وضعٍ تفاوضي.
فإذا كانت الدولة الروسية في أفضل وضعٍ تفاوضيّ على هذا المستوى، وإذا كانت في وضعٍ عسكريّ أمكنها بكلّ بساطة من تحييد كامل ما يمتلكه «الغرب» من أسلحة، ومن موارد مادية لم يشهد لها التاريخ كلّه من مثيل في الدعم والإسناد، وإذا كان كلّ ما يستطيع «الغرب» أن يفعله في الحرب هو فقط المزيد من السلاح والمزيد من الموارد، فلماذا ستقبل روسيا بعضوية أوكرانيا في «الناتو» مقابل مناطق ومقاطعات هي أصلاً تحت سيطرتها المباشرة، وتحت سيطرتها النارية الكاملة، وهي مقاطعات تدين بالولاء التامّ للدولة الروسية.
ثمّ ماذا يستطيع «الغرب» أن يفعل بعد أن استنفد موارده، ومارس كلّ أنواع الحصار والعقوبات، وضخّ عشرات ومئات المليارات دون أن تتمكّن القوات الأوكرانية، ليس من التقدّم، وإنّما المحافظة على مواقعها، أو حتى دون أن تتمكّن من منع انهيار جبهات القتال لديها.
لم تعد أوكرانيا على الأرض قادرة على استمرار المعارك الكبيرة، وأصبحت الآن وانتقلت إلى العمليات الاستعراضية، ولم يعد أمامها سوى حروب «الفرجة» الإعلامية.
أيُعقل أيها المصدر المسؤول في الاتحاد الأوروبي أن يقبل الرئيس بوتين هذا الحلّ السياسي؟
ليس مطلوباً أن يرفع «الغرب» الراية البيضاء، وليس مطلوباً أن تُملي موسكو كامل شروطها على «الغرب»، والمطلوب فقط بكلّ بساطة أن يقبل «الغرب» بالمعادلة التي خاضت الحرب من أجلها، وهي ألا تكون أوكرانيا، وألا تشكّل أكثر، لا اليوم ولا في المستقبل، أيّ مستقبلٍ، بأي شكلٍ من أشكال التهديد للأمن القومي الروسي، خصوصاً أن هذا التهديد قد تحوّل عند درجةٍ معيّنة من درجة التهديد القومي العام إلى درجة التهديد الوجودي والمصيري.
إذا وافق «الغرب» على هذه المعادلة بكلّ ما تعنيه من جوهر، ومن مضمون وشكل، أيضاً، فإنّ الدولة الروسية ستكون جاهزة للجلوس إلى طاولة المفاوضات من صبيحة الغد كما أرى، وكما أعتقد.
أمّا إذا أصرّ «الغرب» على «ركوب رأسه» رغم أنّ الوقائع تبدو واضحةً وعنيدة، فلا يلومنّ هذا «الغرب» إلّا نفسه، لأنّ الحرب بالمعنى الذي أشرنا إليه انتهت إلى النتيجة التالية: [لم يتمكن «الغرب» من تقويض الدولة الروسية، ولم يعد قادراً على حماية نظام الدمية في كييف، وإذا ما أصرّ على مواصلة الحرب، فإنّ على هذا «الغرب» أن يحذر من مغبّة «التورُط» بها مباشرة، لأنّ من شأن ذلك أن يهدّد وجود هذا «الغرب» على الكوكب كلّه].