بحالات القتل الأخيرة تكون الجريمة داخل المجتمع الفلسطيني في إسرائيل دخلت مرحلة جديدة، وإن كان كل ما يحدث هناك عصياً على الفهم في التاريخ الفلسطيني كشعب يتعرض لتهديد. فحين تتعرض المجتمعات للتهديد يكون رد فعلها التماسك بشكل غريزي وليس القيام بعملية تدمير ذاتي بهذا الشكل الصادم.
التطور الجديد هو وصول الجريمة للمستوى قبل السياسي والانتخابات المحلية، فقد قتل مدير عام بلدية الطيرة عبد الرحمن قشوع أمام مبنى البلدية وقرب مركز للشرطة، وبعده كانت الجريمة المروعة في بلدة أبو سنان كانت أشبه بمذبحة قتل خلالها أربعة أحدهم كان غازي صعب المرشح لرئاسة المجلس المحلي، ليرتفع بذلك عدد الضحايا قبل نهاية آب إلى 158، وهو رقم كبير جداً ليس بسبب الظرف الذي يتعرض له المجتمع الفلسطيني للاستهداف والإفقار وحجب التمويل. بل إن الرقم بحد ذاته قياساً بعدد السكان وبالسنوات الماضية قد ضرب مستوى قياسياً في القتل.
هل سيتطور الأمر درجة أخرى ليصل للمشتغلين في حقل السياسة ومرشحي كنيست؟ إذا استمر هذا الانهيار لا شيء مستبعد في دولة تعتبر وجود الفلسطينيين خطأً تاريخياً ارتكبه بن غوريون بإبقائهم، وجاء الآن من يعيد «تصويب التاريخ» فيسلم نتنياهو وزارة الأمن الداخلي لصاحب فكرة الترانسفير وريث كهانا، فهل يدلنا ما يحدث هناك على شيء في تركيبة الحكومة؟
لهذه الحكومة برنامجها شديد الوضوح، ومن العبث الاعتقاد أن هناك من سيضع حداً لهذه الجريمة التي تطيح بمجتمع يُعتبر شاخص رماية السياسة التي تتكثف بشكلها الحالي، وهي بكل الظروف ليست سياسة استحدثها العقل الكاهاني مؤخراً، فقد رافقت كل حكومات نتنياهو. ونتذكر الجدل الذي تم قبل عامين خلال الغطاء الذي أعطاه منصور عباس لحكومة «بينيت» شريطة معالجة الجريمة وقد انخفضت النسبة آنذاك، صحيح أنها لم تنعدم بفعل ما قاله قادة في الشرطة أن الشاباك «أي المؤسسة ضليعة في الموضوع باعتبارها تشكل غطاء للقتلة» لكن الجريمة تراجعت قليلاً لتعود تنفلت مع هذه الحكومة، وهذه ليست صدفة.
حين أُقيمت اسرائيل بقي فيها 156 ألف فلسطيني تضاعفوا أكثر من عشر مرات، وهي نسبة لم يبلغها المجتمع اليهودي، ما شكّل أزمة لدولة تقوم معاييرها على التفوق اليهودي، بل وأبعد أنها دولة لليهود وليس لغيرهم. ويزداد الصدام أكثر بأنها تخوض صراعاً وجودياً مع الشعب الذي يُعتبر فلسطينيو الداخل امتداداً له، وبالتالي لنا أن نتوقع أية سياسة يمكن أن تنتهجها المؤسسة.
حين أبقاهم بن غوريون اعتقد أن هناك 13 مليون يهودي في العالم سيشدون رحالهم نحو الحلم الجديد، وسيبقى الفلسطينيون كما هم، سيشكلون نسبة 5% من السكان، لكن ذلك لم يحدث، وبالمقابل كانت الجماعة العربية تتضاعف بكثرة، ما استدعى المؤسسة بعد نصف قرن من التأسيس عام 2000 لتعقد مؤتمراً على مستوى الأمن القومي تبحث فيه خطر تكاثر الأقلية الفلسطينية ليطلق أرنون سافير خبير الديمغرافيا نداء استغاثته قائلاً «الساعة الديمغرافية تسير بسرعة الفهد وإجراءات الحكومة تسير بسرعة السلحفاة»، وفي مكان آخر يبث الفزع قائلاً «العرب سينتصرون علينا في غرف النوم».
ما يبدو الآن أن الحكومة استبدلت سرعة السلحفاة بسرعة الثعلب. فما يحدث لا تفسير له سوى تدمير منظم للمجتمع واستهداف لفئة تعتبرها المؤسسة الرسمية فئة نقيضة وتشكل خطراً على النقاء اليهودي، ومن ينسى نداء نتنياهو في انتخابات عام 2015 ومطالبته لليهود «بالنزول والتصويت بكثافة لأن العرب يغزون الصناديق»؟، فهذا التصريح الذي يعكس الفكر السياسي الذي يحكم الرجل والذي لم تستطع حتى الولايات المتحدة آنذاك ابتلاعه لتُصدرَ خارجيتها بيان إدانة.
وفوق الكراهية القومية والمشروع الإستراتيجي للحالة اليهودية فقد نشأت عقدة شخصية لدى نتنياهو بعد انتخابات 2021 حين وضع العرب فيتو على رئاسته للحكومة وألقوا به إلى المعارضة، فما يحدث لدى الفلسطينيين هناك أشبه بعملية انتقام حقيقية تقوم بها الحكومة، وحين تتلاقى تلك العقدة مع عقدة تلميذ كهانا وتعيينه مسؤولا عن الأمن تكون هذه هي النتائج بلا أي اندهاش.
مسؤولية وقف الجريمة هي مسؤولية القوى السياسية ولجنة المتابعة التي تهمش ذاتها، ومن العبث مطالبة الحكومة بالعمل على معالجتها، فالأمر لم يعد يمكن السكوت عليه وقد يتطور لقادة العمل السياسي ومرشحي الكنيست حتى يتوقف العرب عن الذهاب لهذه المؤسسة أو غزوها كما يقول نتنياهو. فمن الغريب أن يتمكن رئيس بلدية اللد اليهودي اليميني من عقد اتفاق مصالحة بين عائلتين عربيتين ولا تتمكن الأحزاب السياسية تسجيل أي دور في هذا الملف الذي يهددها قبل كل شيء، وما هبوط نسبة التصويت في الانتخابات الأخيرة سوى تعبير عن ذلك، بالنهاية هي المستهدفة الأولى بالجريمة حين يحتجب الناس عن التصويت.
هناك أوراق نظرية معدة ولجان أحياء وحوار مع العائلات وبرنامج المؤسسات العربية وحضور مكثف للقوى الفاعلة... كثير من الاقتراحات جاءت في كتاب من 250 صفحة كانت قد كلفت لجنة المتابعة لجنة لدراسة الظاهرة برئاسة الدكتور أسعد غانم... ولكن لم يأخذ بها أحد، هكذا قال رئيس اللجنة... من هنا تبدأ المشكلة ومن هنا الحل، وإلا فإن المجتمع ذاهب للتبدد.