حدود «المبادرة الفرنسية» وآفاقها

كاتب
حجم الخط

في رفضها وقْف سياسة العدوان والتهويد والاستيطان، كشرط للتفاوض، لم تأت حكومات نتنياهو، (الثلاث على التوالي والأربع عموماً)، بجديد، عما فعلته حكومات إسرائيل، بألوانها الحزبية المختلفة، منذ انطلاق مفاوضات "مدريد" في العام 1991.

أما هدف حكومات نتنياهو في فرْض إسرائيل "دولة للشعب اليهودي"، فهدف صهيوني مضمر، سعت لتحقيقه على الأرض، رغم إبرامها اتفاق أوسلو، حكومات حزب العمل بقيادة رابين، وبيريس، وباراك، على التوالي. أما مطلب الاعتراف "بيهودية إسرائيل" فطرحته حكومة ائتلاف حزب كاديما بقيادة أولمرت - وحزب العمل بقيادة باراك، قبل أن تجاهر به، وتجعله ناظماً لسياستها، وشرطاً لمواصلة المفاوضات أو لتحديد نتائجها النهائية، حكومات نتنياهو الثلاث الأخيرة.

الإشارات السريعة أعلاه مهمة للبناء عليها بالقول: وإن كانت حكومات نتنياهو أشد حكومات إسرائيل تطرفاً وعنجهية وأيديولوجية، لكنها لم تفعل سوى المجاهرة بما أضمرته، وعملت عليه، ونفذته في ظل المفاوضات، ومن دون إعلان، حكومات إسرائيل التي سبقتها.

يعني؟ لم تفعل حكومات نتنياهو سوى الاعلان، جهاراً نهاراً، وبصلف زائد، عن أن إسرائيل النظام، وبالتالي الحكومات، لا ترفض، فقط، تسوية سياسية للصراع، تتضمن الإقرار بحقوق الشعب الفلسطيني في "العودة والدولة وتقرير المصير"، بل، ترفض أيضاً، حتى إقامة دولة فلسطينية على "حدود 67"، مع "تبادل للأراضي"، وفي إطار ما يسمى "حل الدولتين".

وبكلمات أخرى، بمجاهرة حكومات نتنياهو بشروط إسرائيل التفاوضية الصهيونية التعجيزية، اتضح للجميع، عرباً وعجماً، وأكثر من أي وقت مضى، وبلا لبس أو شك، السبب الحقيقي والهدف الأساس، لإدارة حكومات إسرائيل لـ25 عاماً من المفاوضات، وبالتالي، لفشل كل جولاتها، وآخرها جولة "التسعة أشهر" التي أدارها، كيري، (بين تموز 2013 وآذار 2014).

هنا، بعد إفشال حكومة نتنياهو السابقة لجهود كيري، أعلنت إدارة أوباما، في الظاهر، أنها لن تبذل جهوداً إضافية لاستئناف المفاوضات، لكنها، في الباطن، مارست، في السر والعلن، ضغوطاً متعددة الأشكال على قيادة "السلطة الفلسطينية" لإجبارها على القبول بالشروط الإسرائيلية، (وللدقة الصهيونية)، ولمنعها من تطوير انجاز اعتراف "الجمعية العامة" بالدولة الفلسطينية "كعضو مراقب"، عبر التوجه لـ"مجلس الأمن" بمطلب الاعتراف بها دولة كاملة العضوية، وتحديد مرجعية قانونية دولية وسقف زمني للتفاوض على إقامتها على "حدود 67".

في حينه تقدمت فرنسا بمبادرة، لامست، نسبياً، المطلب الفلسطيني، لعرضها على "مجلس الأمن"، لكنها سرعان ما جمدتها بضغط من واشنطن وعواصم أوروبية فاعلة. أما مشروع القرار الذي طرحه، آنذاك، الفلسطينيون والعرب على "مجلس الأمن"، فقبرته واشنطن في مهده بمنع حصوله على الأصوات التسعة اللازمة لعرضه على التصويت، على الرغم مما أُدخل عليه من تعديلات أفرغته، عملياً، من مضمونه.

وبالنتيجة، أعطت إدارة أوباما إسرائيل مزيداً من الوقت، (نحو عامين حتى الآن)، للمضي قدماً في تنفيذ مخططات استيطان الضفة والقدس وتهويدهما، علاوة على استباحتمها أمنيا وعسكريا، وشن حرب إبادة وتدمير مبيتة، (الثالثة خلال السنوات السبع الماضية)، على قطاع غزة. لكن الهجوم، (السياسي والميداني)، الصهيوني غير المسبوق، قاد إلى نتائج عكسية، أبرزها، اعترافات البرلمانات الأوروبية بالدولة الفلسطينية، وتنامي المقاطعة متعددة الأشكال لإسرائيل، واتساع دوائر وأشكال وجهات إدانتها كـدولة احتلال عنصرية توسعية عدوانية مارقة، وصولاً إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية المستمرة منذ مطلع شهر تشرين الأول الماضي.

لكن الحكومة الفرنسية، عوض أن تعلن الاعتراف بالدولة الفلسطينية كما فعل البرلمان الفرنسي، وعوض أن تحذو حذو حكومة السويد في اعترافها الشجاع بالدولة الفلسطينية، و/ أو حذو أمين عام هيئة الأمم، بان كي مون، في تفهمه، (المتأخر)، للمقاومة الشعبية الفلسطينية، وتحميل الاحتلال مسؤولية استمرار الصراع وتلاشي "حل الدولتين"، أحيت، (الحكومة الفرنسية)، مبادرتها بالدعوة لعقد مؤتمر دولي، من دون توضيح إذا ما كان مؤتمراً لتحديد أسس ومرجعية ما تسمى "عملية السلام"، أم مؤتمراً احتفاليا لاستئناف المفاوضات على شاكلة "مؤتمر "أنابوليس"، (مثلاً)، أم مؤتمراً لتوسيع "الرباعية الدولية" للاشراف على المفاوضات؟ ناهيك أن الحكومة الفرنسية تعلم قبل غيرها، وأكثر من غيرها، أن إدارة أوباما التي أحبطت "المبادرة الفرنسية" في العام 2014، باتت في العام الأخير من ولايتها، ويشغلها الاستحقاق الانتخابي، ومقارعة روسيا وحلفائها، دولياً وإقليمياً، على النفوذ في المنطقة، خصوصاً في العراق وسورية وليبيا، وبأن أقصى ما يهمها، الآن، في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو محاولة وقْف الانتفاضة، وتحذير، (وللدقة تنبيه)، حليفتها إسرائيل من عواقب اتساع رقعة مقاطعتها وعزلتها، وانهيار السلطة الفلسطينية، ما باتت تحذر منه، أيضاً، جهات أوروبية حليفة لإسرائيل، وقبلها قادة جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية. وإذا ما أردنا "التغميس في الصحن، لا الدوران حوله"، فلنقل: صحيح أن "المبادرة الفرنسية"، حملت، منذ تم طرحها في العام 2014، موقفاً مختلفاً، نسبياً، عن الموقف الأميركي، لكن الأصح هو أن هذا الاختلاف لا يعدو كونه اختلافاً بين حليفين، (الولايات المتحدة وفرنسا)، تلتقي مصالحهما العليا، ويجمعهما، بالتالي، نفس الرؤية والمنطلقات الأساسية لحل القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع، ناهيك عن أن التمايز النسبي لمواقف فرنسا عن مواقف الولايات المتحدة، يُحسم، في نهاية المطاف، لصالح الأخيرة، بوصفها قائد "التحالف الغربي"، والدولة الأقوى في العالم. هكذا كانت الحال، عندما طرحت فرنسا مبادرتها في العام 2014، بل، هكذا كانت الحال، ولا تزال، كما أثبتت التجربة، منذ إنشاء إسرائيل، بعملية تطهير عرقي بشعة العام 48، ثم توسُّعها بعدوان مبيت سافر العام 67. ما يعني أن "المؤتمر الدولي" الذي تُجدد الحكومة الفرنسية الدعوة إليه، من دون تحديد لهدفه، لن يكون، في حال عقده، سوى منصة لاستئناف المفاوضات، أي إعادة "تجريب للمجرب".

أما أن تكرر الحكومة الفرنسية تعهدها بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في حال فشل مبادرتها، فأمر جيد، لكن تنفيذه قد يتأخر لأعوام، سوف تستغلها إسرائيل، باتخاذ المفاوضات، كما فعلت طيلة 25 عاماً، غطاء لمواصلة سياستها في العدوان، ومصادرة الأراضي واستيطانها وتهويدها، ما يقفل باب إمكانية التوصل، بالتفاوض، لتسوية متوازنة، تقوم بموجبها دولة فلسطينية مستقلة على "حدود 67"، فما بالك بتسوية عادلة، يعود بموجبها اللاجئون، (جوهر القضية وأصل الصراع)، إلى ديارهم التي شُردوا منها، وفقا للقرار الدولي 194؟! أما القول إن دعوة فرنسا لعقد مؤتمر دولي، ربما، تكون تمت بضوء أخضر من إدارة أوباما، وإن واشنطن ستمتنع عن التصويت عند عرضها على مجلس الأمن، فأمر، قيل عندما طرحت فرنسا "مبادرتها" قبل نحو العامين، وثبت أنه غير صحيح. لكن، حتى، وإن حصل فلن يكون إلا بعد إدخال تعديلات أميركية تفرغ هذه المبادرة من كل مضمون ينتقص من احتكار واشنطن لملف الصراع ورعاية المفاوضات، ويستجيب للحقوق الفلسطينية، كما نصت عليها قرارات الشرعية الدولية.

أما غير ذلك، فالفيتو الأميركي جاهز، كما كان دائماً، ما يوجب تخفيف الحماسة الرسمية الفلسطينية والعربية لإحياء المبادرة الفرنسية، تجنباً لجني الخيبة، وشراء الوهم، مرة أخرى، فالحكومة الفرنسية التي لم تصمد أمام ضغط الولايات المتحدة ودول أوروبية وازنة في العام 2014، لن تصمد الآن، أيضاً، ناهيك عن أن فرنسا، وغيرها من الدول الكبرى، لن تكون، في الحالات كافة، "ملكية أكثر من الملك".

هذه هي حدود "المبادرة الفرنسية" وآفاقها، ما دامت المفاوضات المباشرة، برعاية أميركية، هي الخيار الوحيد للرسميات العربية، وما دامت رهانات "أوسلو"، ومفاعيل انقسام وتقاسم السلطة الفلسطينية، قائمة، وتحول دون تسليح الانتفاضة المستمرة بقيادة وأهداف وطنية محددة وموحدة، بها، فقط، يرتقي فعلها الميداني إلى إستراتيجية سياسية وطنية جديدة لإدارة الصراع مع الاحتلال