مع حزب الله تتحول إسرائيل إلى دولة عاقلة، تنسحب من لبنان وتقدم تنازلات وتتوصل لحلول وسط في ملف الخلاف البحري.
ومؤخراً، وهذا أمر مثير، تفضل الحلول السلمية لإزالة خيمة للحزب على الحدود تجنباً للحرب وويلاتها، هذا مدهش وتلك إسرائيل التي لم نعرفها فهي كما قال أحد قادتها السابقين أبراهام بورغ «تعيش بالسيف».
منذ فترة أقام الحزب خيمتين على الحدود وعدة مواقع يقول إنها لمؤسسة «أخضر بلا حدود»، فيما أن اسرائيل لديها يقين أن تلك المؤسسة تستخدم غطاء لنشاطات الحزب الأمنية والعسكرية على الحدود، تطالب إسرائيل بإزالة الخيمة المتبقية.
ومدهش أن نرى شكل التعاطي الإسرائيلي مع الأزمة، تطالب العالم بالتدخل ... تطلب من الأمم المتحدة أن تجد حلاً... تهمس للولايات المتحدة بالتوسط ....تهدد بالحرب ..اجتماعات مكثفة ...إيحاءات بأن الطيارين يجلسون في قمرة القيادة ....وبالنهاية لا شيء سوى تحصين سبع عشرة منشأة حيوية من مجموع أربعمائة معرضة للقصف.
«سنعيد لبنان إلى العصر الحجري» هكذا قال وزير الدفاع يوآف جالانت الذي يخيم في نيويورك محاولاً معاقبة الحزب بعيداً عن قعقعة السلاح، فيرد عليه رئيس الأركان السابق دان حالوتس «كل نقطة نضع إصبعنا عليها في إسرائيل اليوم هي نقطة ضعف، المجتمع، الجيش، الاقتصاد، العلاقات الخارجية، كل شيء، لا يوجد شيء واحد يمكن القول إنه طبيعي، أقترح عدم التباهي وكثرة الكلام من قبيل أننا سنعيد لبنان للعصر الحجري».
لماذا لم تسارع إسرائيل كعادتها للحلول الأمنية والعسكرية التي اعتادتها بل هي تتصرف بهدوء حين تعلق الأمر بلبنان ؟ لماذا لا ينطبق الأمر على الفلسطينيين وعلى سورية حيث تضرب قبل أن تصرح ولا تعرف غير حلول القوة ؟ وحين لا تجدي القوة حلولاً ...يجيب القادة حين يتعرضون لسؤال: ما الحل ؟ بالقول: مزيداً من القوة، لكن هذه اللغة تتسمر في الشمال، وتتوقف إسرائيل لتتحول إلى دولة عادية تفضل الحلول السلمية وتعطي ما يكفي من الوقت لإنجازها مع الاستعداد لتقديم تنازلات.
نظرية «الأرض مقابل السلام» هي نظرية إسرائيلية تعود لأول رئيس وزراء في إسرائيل دافيد بن غوريون عندما احتلت القوات الإسرائيلية أراضي عربية ليعلن أنه سيقايض إعادتها بالسلام.
هذه النظرية وضعها في حروب العام 48 ثم جاءت حرب العام 67 التي انتصرت فيها إسرائيل على العرب فأحدثت النشوة لدى القادة الذين وصفوا في إحدى مذكرات الحرب بـ «السكارى بخمر الانتصار» أحدثت تحولاً أطاح بنظرية الأرض مقابل السلام التي حلت محلها نظرية «كل شيء يتم حله بالقوة».
وانتقلت العدوى للشارع الإسرائيلي في الانتفاضة الثانية عندما اشتد الصراع مع الفلسطينيين رافعاً شعار «دعوا الجيش ينتصر» معتقداً أن هناك من يمنع استعمال القوة مع الخصم في غياب تام لصوت العقل الذي يجب أن يدعو لحل سياسي.
لكن لنشوة الانتصارات ثقافتها، فقد أصابت المجتمع وقياداته بعمى القوة لتبلغ ذروتها مع بنيامين نتنياهو متبجحاً أنه يمكن إقامة سلام وتطبيع مجاني دون الانسحاب من أي أرض.
القوة وثقافتها أصابت المجتمع الإسرائيلي بمرض مزمن، ووجد نفسه يصارع بلا توقف يعيش على الرمح، يمضي بالحروب لا غير رغم فداحة خساراته وتزايدها «ما يحدث في الضفة نموذج».
ضربت إسرائيل العراق وضربت وتضرب سورية وتضرب في قلب طهران وتضرب في غزة وفي المدن والمخيمات في الضفة، هكذا الأمر حياتها كلها ضرب متواصل لكن حين يتعلق الأمر بلبنان يختلف الأمر، تبحث عن الحلول السلمية ....!
يسدي حزب الله خدمة كبيرة لإسرائيل حيث يعيد تصويب الفكر السياسي المشوه الذي لا يرى حلولاً إلا بالقوة ومزيداً من القوة، يأخذ بيدها نحو العقلانية ويعيد لها صوابها حين يحقق لها صدمة الإفاقة من ثمالة القوة، يأخذ وزير الجيوش نحو الأمم المتحدة كما تفعل الدول السوية والعاقلة، يجعل وزارة خارجيتها تطلب وساطة أميركية وتنتظر مفاوضات الوسيط وتستمع بهدوء بعيداً عن مبنى «الكرياه» وسيل التهديدات. هل تعرف اسرائيل أن هذه أفضل خدمة تقدم لها ؟.
وصل المبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين أول من أمس إلى لبنان لمناقشة موضوع الخيمة. وحين سأله مشارك في اللقاءات عن مخاطر تلك الخيمة قال: «عسكرياً لا قيمة لها ولكنها تحولت إلى قضية معنوية، الجيش الإسرائيلي بات مهاناً أمام شعبه بسبب عجزه عن إزالة الخيمة بالقوة» في هذا التصريح شيء مهم ولافت لم نعرفه عن اسرائيل، أن يهان الجيش أمام شعبه ... وأن يعجز عن استعمال القوة.
لأن التاريخ يسجل، فقد قام الحزب بعملية قبل أشهر في مجدو اعتبرها الأمن الإسرائيلي أخطر ما حدث هذا العام فصمتت إسرائيل وغابت القوة، ثم أُطلقت صواريخ من المناطق التي يسيطر عليها حزب الله، سارعت إسرائيل بتبرئة الحزب حتى قبل أن ينجلي غبارها وتحميل الفصائل الفلسطينية المسؤولية ... في كل ما يتعلق بلبنان نرى إسرائيل مختلفة وعاقلة ... أحب أن تكون كذلك ولعل عدوى العقلانية تصيبها في الملف الفلسطيني ..!