مع تعاظم المخاوف من احتمال فقدان فاعلية المضادات الحيوية ضد سلالات بكتيرية جديدة لها مناعة قوية ومقاومة لهذه المضادات، ازداد الإلحاح على ضرورة تطوير أدوية جديدة، تحمي البشر من البكتيريا الفتاكة، التي تودي اليوم بحياة 700 ألف إنسان سنويا، وتتوقع منظمة الصحة العالمية أن يبلغ العدد 10 ملايين بحلول عام 2050. وتصطدم الحاجة الملحة بتطوير مضادات حيوية جديدة بتهرّب شركات الأدوية الكبرى من الانخراط في ابتكار ودراسة وتطوير مثل هذه الأدوية، لسبب واحد ووحيد وهو أنّها تراها غير مربحة، مقارنة بالأدوية التي تدر عليها عوائد تصل إلى مليارات الدولارات سنويا. ويطرح الكثيرون السؤال عن قدرة النظام الرأسمالي على التعاطي مع أزمة المضادات الحيوية، كما طرحت من قبل أسئلة حول قدرته على مكافحة أوبئة مثل كورونا، وعلى معالجة الانحباس الحراري. هذه تحدّيات كبرى، تهدد مستقبل البشرية، والعرب يدفعون الثمن مثل غيرهم، وعليهم أن يساهموا في الحل مثل غيرهم أيضا.
تهتم الأجهزة الصحية العالمية والمحلية بنشر الوعي عند المهنيين وعند عامة الناس، بخصوص الاستخدام السليم للمضادات الحيوية، والتحذير من أن الاستعمال المفرط يؤدّي إلى تطوّر طفرات جديدة من البكتيريا لا تتأثر بالأدوية المعروفة. وقد أقام الأردن لجنة خاصة بهذا الموضوع، وعقد في مصر مطلع الأسبوع الحالي «المؤتمر الطبّي الثاني للاستخدام الأمثل لمضادات الميكروبات ومكافحة العدوى»، نظمته الهيئة العامة للرعاية الصحية. ومع المحاولات الحثيثة لنشر الوعي، تبقى المشكلة كبيرة خصوصا في الدول الفقيرة، حيث لا يوجد نظام شامل للتأمين الصحي، ويلجأ الكثيرون إلى الحصول على المضادات الحيوية مباشرة من الصيدليات، بلا مراجعة أو وصفة من طبيب، وتجد هذه الدول صعوبة كبيرة في فرض قوانين الصيدلة، وهي عاجزة عن توفير خدمات صحية ملائمة لسكانها. صحيح أن كارثة المضادات الحيوية هي قضية صحية أوّلا، ولكن ليس أخيرا، حيث لها أبعاد اجتماعية وسياسية وحتى أيديولوجية في غاية الأهمية.
أزمة النظام الصحي
عندما أسطّر هذا المقال فأنا أكتب أيضا من وجهة نظري المهنية، كحامل لقب دكتوراه في علوم الصيدلة والكيمياء الطبية وكمحاضر في «علم الأدوية ـ فارماكولوجي» في الجامعة العربية الأمريكية في جنين ورام الله. وعندما نقوم أنا وزملائي وزميلاتي بتدريس مادة «المضادات الحيوية»، فإننا نشدّد كثيرا على ضرورة الالتزام بقواعد الاستخدام السليم لهذه الأدوية، وعلى مخاطر فرط الاستخدام وسوء الاستعمال، وعلى ما لهما من عواقب وخيمة وحتى مميتة، ونؤكّد أن الإسراف في المضادات الحيوية سيؤدّي إلى طفرات جديدة فتّاكة قد لا يكون لها علاج. يعتقد العلماء أن المضادات الحيوية والجينات المقاومة لها قائمة منذ ملايين السنين، إن لم يكن أكثر، ففي الطبيعة يفرز الكثير من الميكروبات، مثل الفطريات والبكتيريا، مضادات حيوية في محيطها، وهي نفسها تملك القدرة على مقاومة هذه المواد، وإلّا كانت ستموت بسببها. هناك أكثر من تفسير لهذه الظاهرة الطبيعية، والأرجح أنّها تقوم بدور إبعاد ميكروبات من نوع مخالف، وتسمح فقط للنوع نفسه بالدخول لأنّه يستطيع مقاومة المضادات العينية، التي تفرزها فصيلته. نجد في أدبيات تاريخ الطب الغربية، أن اليونان كانت مصدر استعمال المواد المتعفّنة لعلاج الجروح، ولكن المصدر الأول كما يبدو كان الطب المصري القديم. ففي بردية «بيبروس»، التي تعود الى سنة 1550 قبل الميلاد وقبل ظهور الطب اليوناني بمئات السنين، نجد وصفة تنص على أنّه «إذا فسد الجرح وتقرّح وانتفخ يربط به خبز شعير متعفّن». وقد درج القدماء بعدها على استعمال مواد متعفّنة مختلفة لعلاج الجروح والتقرّحات الخارجية، ويبدو أن هذا العفن احتوى على مضادات حيوية تفرزها الميكروبات.
كان الاكتشاف الأكبر في العصر الحديث للعالم الفرنسي لوي باستير، الذي أثبت أن أنواعا من الميكروبات تسبب الأمراض والعدوى، بعد ذلك بدأ السعي نحو إيجاد «حل» لهذه الكائنات الدقيقة المؤذية، وجاء الحل بالصدفة حين قام العالم الإسكتلندي ألكسندر فليمنغ بتجارب على البكتيريا، وظهر له أن تلوث التجربة بنوع من الفطريات أدّى إلى عدم تكاثر البكتيريا، واستطاع بعدها أن يفك اللغز واكتشف البنسلين. وبعد نجاح مجموعة من علماء جامعة أكسفورد في إنتاج كميات كبيرة من هذه المادة، بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الطب، عرفت باسم «المرحلة الذهبية للمضادات الحيوية»، تمكن الطب خلالها من إنقاذ حياة ملايين البشر. وفي تلك المرحلة المبكّرة حذّر فليمنغ من أن الاستخدام المفرط للمضادات الحيوية سيفقدها فعاليتها، تبعا لانتشار ظاهرة مقاومة البكتيريا لها. لقد أصبحت ظاهرة مقاومة المضادات الحيوية من قبل طفرات بكتيريا جديدة من أهم التحديات التي تواجه عالم الطب، بما لها من إسقاطات خطيرة على الصحة والاقتصاد والسياسة والمجتمعات عموما. وهذا التحدي صعب للغاية لأن البكتيريا لديها قدرة كبيرة على التكيّف والتكاثر السريع، وحتى على نقل الجينات المقاومة إلى جراثيم من الفصيلة نفسها ومن فصائل أخرى. إنّه لكابوس حقّا أن نتخيّل عالما يعجّ بسوبر باكتيريا مقاومة لأنواع المضادات الحيوية كافة، التي قد تفقد فعاليتها ودورها. فهل من حل؟ ومن أين سيأتي هذا الحل؟
الرأسمالية في قفص الاتهام
في العصر الحديث، تعتبر شركات الأدوية المصدر الوحيد تقريبا لإنتاج العقاقير الجديدة. وتنطلق هذه الشركات من مبدأ الربح الوفير والسريع والمضمون، وعليه تستثمر في مستحضرات مربحة تستعمل لفترات طويلة من قبل عدد كبير جدا من الناس، مثل أدوية القلب وضغط الدم ومعالجة الدهون والسكّري، التي تدر أرباحا طائلة. ومنذ سنوات لم تعد هذه الشركات تستثمر إلا في القليل جدا من المضادات الحيوية. وحسب تقرير للجمعية الأمريكية للأمراض المعدية، فإن الغالبية الساحقة من المضادات الحيوية الجديدة، في المختبرات وفي الأسواق، هي عمليا مشتقات لمضادات حيوية اكتشفت قبل حوالي 40 عاما. ما الذي يردع الشركات الكبرى عن الاستثمار في مضادات حيوية جديدة؟ قد تتعدد الأسباب لكنّها كلّها متفرّعة من دافع الربح، المبدأ الوحيد للرأسمالية وشركاتها العملاقة والصغيرة، ومن هذه الأسباب: أولا، أن المضادات الحيوية تستعمل لفترات قصيرة ولأيام محدودة، وثانيا، أن الاستثمار في تطويرها كبير جدّا ويصل إلى أكثر من مليار دولار للدواء الواحد، وثالثا، الفترة الممتدة من بداية التطوير حتى دخول الدواء السوق وجني الأرباح هي بالمعدّل 10 سنوات، ورابعا، أن المضادات الحيوية الجديدة تستعمل بشكل محدود جدّا لكبح تطوّر جينات بكتيريا مقاومة لها، وهي تحفظ للاستخدام فقط في الحالات المستعصية على العلاج بعقاقير أخرى. الفكرة القائلة بأن «يد السوق الخفية» قادرة على حل كل المشاكل، بما فيها هذه المشكلة، والفكرة الموازية بأن مسؤولية العلم إيجاد طرق لمنع الكارثة، تدفعان باتجاه القفز إلى الهاوية وانتظار أن تأتي النجدة في مرحلة من مراحل السقوط. العلم قادر إذا توفّرت له الموارد اللازمة، وعاجز أن هي نضبت. نحن أمام حالة أخرى من التناقض الصارخ بين دافع الربح الرأسمالي وعالم الحاجات البشرية. وإذا تركنا الأمر للشركات العملاقة فإن المضادات الحيوية الجديدة ستكون «أدوية يتيمة»، التي تعرّف رسميا بأنها أدوية تحجم الشركات عن المضي في تطويرها، حتى لو كانت فعّالة ومفيدة للمرضى، لأنها ببساطة غير مربحة لهذه الشركات.
ما الحل؟
يبدو أن الحل موجود خارج منطق الرأسمالية، التي فشلت في إنتاج مضادات حيوية جديدة، كما فشلت في التعامل مع الأوبئة الفيروسية وأزمة المناخ العالمية. من المهم الانتباه إلى أن ابتكار أدوية جديدة لا يبدأ من الشركات التجارية، بل من المؤسسات البحثية وبالأخص الجامعات، التي هي من القطاع العام. وعليه على الحكومات أن تخصص موارد كبيرة للمؤسسات الأكاديمية لتقوم بدورها العلمي في إعطاء أجوبة لمشاكل البيئة والصحة، ولكن هذا لن يكون كافيا، فهناك حاجة لتنسيق وحشد الجهود العالمية وتأطيرها تحت مظلة منظمة الصحة العالمية. ولربما آن الأوان لمبادرة جماهيرية كونية بتشكيل صندوق عالمي جماهيري لحل المشكلة، على أن يتكفّل بالبحث وبالتطوير وبالإنتاج وبالتسويق. صحة البشر أغلى وأهم من أن نتركها فريسة للجشع الرأسمالي، الذي لا يعرف الشبع.