"لا مكان للعباءة في المدرسة" الفرنسية. قرار أعلنه بحزم وزير التربية الجديد غبريال أتّال يوم الأحد الفائت عبر شاشة تلفزيون TF1. وأضاف ردّاً على سؤال الإعلاميّة: "عندما تدخلين الصف يجب أن لا تتمكّني من تمييز الطلاب دينياً عند النظر إليهم". واضح أنّ القرار يستهدف "العباءة الإسلاميّة"، وقد أثار جدلاً سياسياً ودينياً في فرنسا يبدو أنّه لن ينتهي قريباً.
في مؤتمره الصحافي الذي يسبق بدء العام الدراسي، علّل الوزير أتّال قراره بأنّه "إخلاص للقيَم (قيَم الجمهوريّة) ورفضاً للطائفيّة". وأضاف أنّه "استجابة لطلب 150 مدير مدرسة اتّخاذ قرار في هذه المسألة" بسبب أحداث واجهتها مؤسّساتهم.
إذاً القضيّة قديمة. وزير التربية السابق لم يتّخذ قراراً واضحاً بشأنها. الوزير الحالي اتّخذ القرار. وسيصدر القانون.
ردود مؤيّدة وأخرى رافضة
لم تتأخّر ردود الفعل على قرار وزير التربية الجديد. بعضها مؤيّد. وبعضها الآخر رافض. أيّد اليمين القرار ودعمه. أتى ذلك على لسان النائب إيريك سيوتي، رئيس الحزب الجمهوريّ: "الطائفية وباء يهدّد الجمهوريّة. أحيّي القرار الذي يؤكّد رأينا" (في الموضوع)، قال سيوتي.
في المقابل ظهر اليسار منقسماً بين مؤيّد ومعارض للقرار، حتى داخل حزب "فرنسا غير الخاضعة". فزعيم الحزب جان لوك ميلانشون رفض القرار وتكلّم عن "حرب دينيّة" ضدّ الإسلام. رئيسة الكتلة البرلمانية للحزب ماتيلد بانو اعتبرت "القرار مخالفاً للدستور ويناقض المبادئ الأساسيّة للعلمانيّة". وأضافت أنّه يعبّر عن "عوارض رفض مسكون بهاجس المسلمين". بينما بعض النواب في اليسار اعتبروا القرار مكمّلاً لقرار "منع الإشارات الدينيّة في المدارس الحكوميّة" الذي صدر عام 2004.
لكن هل العباءة إشارة دينيّة؟
موقف المسلمين
جاء الردّ على هذا السؤال على لسان عبدالله زكري، نائب رئيس "المجلس الفرنسيّ للعبادة الإسلامية". فقد أكّد أنّ "العباءة ليست إشارة دينيّة". إنّها طريقة لباس، موضة. وبالفعل القرآن يتكلّم عن حجاب المرأة، إذ قال الله تعالى: } ولا يُبدِينَ زينَتهُنَّ إلّا ما ظَهَرَ منها { (سورة النور، الآية 31). أمّا اللباس فلا إشارة مباشرة إليه سوى أنّه يجب أن يكون محتشماً ويُخفي مفاتن جسد المرأة، كما قالت لنا مرجعية إسلاميّة. ومن هنا ارتداء العباءة، وقديماً كان لباس المرأة في المجتمعات الشرقيّة، سواء كانت مسلمة أم مسيحيّة. المسيحيّات تخلّينَ عن هذا اللباس تأثّراً بالغرب واقتداءً به، بينما المسلمات حافظن عليه. وهو يميّزهنّ عن غيرهنّ من النساء في فرنسا كما في كلّ المجتمعات الغربيّة. لذلك تكلّم الوزير أتّال عن تمييز الطلاب دينياً بالنظر إليهم، ويقصد النظر إلى لباسهم. والجدير بالذكر أنّ الوزير تطرّق إلى "العباءة" و"القميص"، وهي العباءة التي يرتديها أحياناً الرجال المسلمون في فرنسا والملتحون على الطريقة الإسلاميّة والذين يضعون قبّعة خاصة بالمسلمين.
قال نائب رئيس "المجلس الفرنسي للعبادة الإسلامية": "ننتظر نصّ القانون الذي سيُصدره وزير التربية" ليُبنى على الشيء مقتضاه. وأوضح أنّ المجلس سيعمل على إلغاء القرار بالطرق القانونيّة. وهنا يُطرح السؤال: إذا لم تكن العباءة إشارة دينيّة فلماذا سيعمل "المجلس الفرنسي للعبادة الإسلاميّة" على إلغاء القرار؟
كيف سيطبَّق القرار؟
يأتي القرار قبل أسبوع من بدء العام الدراسي في فرنسا (4 أيلول). لا يبدو أنّه سيواجه حالة "عصيان" إسلاميّة. بيد أنّه سيخلق حالة امتعاض لدى المسلمين. وسيُجبر الفتيات على ارتداء ألبسة لم يعتدن عليها. وسيُحمّل الأهل أعباءً ماليّة ستزيد من فاتورة عودة أبنائهم إلى المدرسة، وهي فاتورة ارتفعت قيمتها بسبب ارتفاع الأسعار. وقد تطرّق الوزير أتّال إلى هذه المسألة في مقابلته على TF1.
السؤال هو: كيف سيطبّق القرار؟ هل ستعمد الفتيات إلى نزع العباءة عند باب المدرسة وارتدائها عند خروجهنّ منها كما يفعلن مع الحجاب الممنوع في المدرسة منذ عام 2004؟
بعض نواب اليسار، في معرض انتقادهم للقرار، سخروا من قرار الوزير بالقول: "هل يُنشئ جهاز "شرطة دينيّة" لمراقبة لباس الفتيات في المدارس؟". وفي السؤال إشارة إلى الشرطة الدينيّة في بعض الدول الإسلاميّة.
إسلاموفوبيا أم تطبيق للعلمانيّة؟
هل يعكس القرار الإسلاموفوبيا أم يطبّق القيَم العلمانيّة؟
يقوم بالاثنين معاً.
لا شكّ أن الإسلاموفوبيا خلف القرار. وهي موجودة منتشرة في أوساط الطبقة الحاكمة في فرنسا كما في المجتمع الفرنسيّ والعديد من المجتمعات الغربيّة. في ألمانيا مثلاً، صدر عن لجنة مستقلّة تقريرٌ عن الإسلام في ألمانيا نشره موقع "أورو نيوز" بتاريخ 6 حزيران، وجاء فيه أنّ المسلمين "هم إحدى الأقليّات الأكثر تعرّضاً للضغوط". وعلّقت وزيرة الداخليّة الألمانية نانسي فيسر على التقرير بالقول إنّ "كثراً من المسلمين البالغ عددهم 5.5 ملايين في ألمانيا يعانون من التهميش والتمييز في حياتهم اليومية، بما في ذلك الكراهية والعنف".
للتذكير، بدأت الإسلاموفوبيا تنتشر في الأوساط الأوروبية، والغربية عموماً، مع ظهور التنظيمات الإسلاميّة المتطرّفة في العقود الأخيرة، وتنفيذها أعمالاً إرهابيّة في الدول الغربية. ويبدو أنّ الملابس الإسلامية (الحجاب والعباءة والبوركيني على الشواطئ) تزيد منها وتستنفرها وتخرجها إلى العلن. وتبرز هذه الألبسة بشكل واضح في مناطق الجنوب حيث ترتدي الفتيات (غير المسلمات) "نصف ثياب" بشكل فاضح.
العلمانيّة الفرنسيّة.. والاستثناء المسيحيّ
بيد أنّ القرار هو أيضاً تطبيقٌ لمبادئ العلمانيّة في الجمهوريّة الفرنسيّة. في السابق عملت الدولة على إزالة المظاهر المسيحيّة في المدارس الحكوميّة. أمّا المدارس الكاثوليكيّة فلها وضع خاصّ. فهي متعاقدة مع الدولة بموجب القانون 31 الصادر عام 1959، وتخضع للدولة في منهاجها التعليميّ، وتحترم قانون علمانيّة الدولة وحرّيّة الدين، لكنّ لها وضعاً خاصّاً من حيث إدارتها والتعليم الدينيّ فيها للمسيحيين الراغبين بذلك، ولها تنظيمها في الأبرشيّات. ويبلغ عددها اليوم 7,259 مدرسة من ضمن 59 ألف مؤسّسة تعليميّة في فرنسا. وتشكّل 95% من التعليم الخاصّ. فيها مليونا تلميذ. ويدرّس فيها 130 ألف أستاذ (إحصاءات 2021-2022). وليسوا كلّهم مسيحيين.
في عام 2004 مُنع الحجاب في المدرسة. واليوم العباءة. تؤكّد هذه القرارات والقوانين "الصراع" بين المظاهر الإسلاميّة والمبادئ العلمانيّة في الجمهوريّة الفرنسيّة. بيد أنّ قرارات المنع لا تبدو هي الحلّ. الأفضل العمل على سياسة اندماج أكثر فعاليّة داخل المجتمع. وهي مسؤولية الدولة والمسلمين على السواء. فعلى الدولة الإقلاع عن التصرّف من منطلق "الإسلاموفوبيا"، وعلى المسلمين احترام علمانية الدولة وعدم الخلط بين الدين والدولة.