بينما تصعّد إسرائيل من تهديداتها، بالاغتيال وبشنّ عدوانٍ على قطاع غزة، وتتبجّح بأنها مستعدّة وقادرة على خوض معركةٍ مع جبهاتٍ متعدّدة، ينتاب القلق الإدارة الأميركية إزاء إمكانية وقوع تصعيدٍ في المنطقة، قد يتّخذ طابعاً إقليميّاً.
التهديد بممارسة العدوان، ليس صفةً طارئة على إسرائيل، ذلك أنّ خطابها وفكرها السياسي، وممارساتها، تعتمد على لغة القوّة والعنجهية، والاستعلاء.
هذه العنجهية والاستعلاء، والتبجّح بالتفوّق، تحيلها المقاومة الفلسطينية المتصاعدة في الضفة الغربية إلى مجرّد ادّعاءات فارغة لا تنجح حتى في التغطية على الفشل الاستخباري والعسكري المتكرّر.
إسرائيل عالقة بين خيارات كلّها صعبة وتنطوي على مغامرة غير محسوبة وغير مضمونة النتائج، التي قد تأتي عكس ما تسعى إليه إسرائيل.
مرّة يتحدّثون عن اجتياح الضفّة على غرار «السور الواقي» العام 2002، ومرّة يهدّدون بمعاودة سياسة الاغتيالات، وبعد أن كانت إسرائيل تركّز على صالح العاروري تضطرّ للتعميم، ومرّة تتحدّث عن عملية عسكرية كبيرة ضد القطاع، وحركة حماس، وتمتد التهديدات الإسرائيلية الفارغة إلى معاقبة إيران و»حزب الله».
لا شيء من هذا القبيل يمكن لإسرائيل أن تقدِم عليه، ما يعكس تراجع القدرة العسكرية، وتراجع هيبة الجيش الذي ظنّت إسرائيل أنّه لا يُقهر ولن يُقهر أبداً.
في الحقيقة فإنّ إسرائيل عاجزة عن الاختيار، بسبب ما يُعانيه الجيش والأجهزة الاستخبارية من ضعفٍ وتفكّك وتناقضات واستنكاف عن الالتحاق بالخدمة في مختلف القطاعات، خاصّة الطيران.
تعوّدت إسرائيل أن تبادر لشنّ عدواناتها في كلّ الاتجاهات مستندة إلى قوّة وتماسك أجهزتها العسكرية، ومناعة جبهتها الداخلية والاعتماد على الدعم والتغطية الأميركية دائمة الحضور.
الوضع في إسرائيل مختلف، ومن الصعب ترميمه.. فالجبهة الداخلية هشّة مفكّكة، والمجتمع يعاني من انقسام متزايد وتناقضات صعبة، وحكومة يمينية متطرّفة وعنصرية، تواجه تحدّيات خارجية ودولية صعبة، حيث تحظى سياساتها وإجراءاتها بإدانات متلاحقة وعزلة متزايدة.
هذه الحكومة وبعد ثمانية أشهر من تشكُّلها، أدخلت البلاد في أزمةٍ عميقة يعترف الكثيرون أو يحذّرون من أنّها تشكّل تهديداً وُجودياً لدولة الاحتلال، وتلحق أفدح الأضرار بمكانتها وسمعتها ودورها على المستوى الخارجي.
هذه الحكومة دخلت نفقاً مُظلماً لا رجعةَ عنه إلّا بتفكُّك وسقوط الائتلاف، وهذا الأمر دونه النزعات الذاتية لرئيسها وعدد من وزرائها، ولذلك فإنّ سياساتها الداخلية، وبالعلاقة مع الفلسطينيين تتفكّك بإشعال المزيد من الصراعات والأزمات والتناقضات.
آخر ما ورد في هذا الملفّ الاحتجاجات العنيفة التي قام بها اللاجئون الإريتريون وأسفرت عن سقوط أكثر من مئة وسبعين إصابة بين المحتجّين والشرطة.
قد يبدو أنّ السبب يتّصل بالاحتجاج على احتفال أقامته السفارة الإريترية، لكنّ الأصل يتّصل بالعنصرية والتمييز، وقضية التجنيس.
الأزمة لا تزال مفتوحةً، خصوصاً بعد تهديدات بنيامين نتنياهو، ولعلّ الأهمّ هو الاستعداد لتصعيد العنف سواء من الشرطة أو المحتجّين كأسلوب يترسّخ في التعاطي مع الاحتجاجات.
تتلاقى احتجاجات الإريتريين مع الاحتجاجات العامة المستمرة التي تخوضها «المعارضة» على خلفية «الانقلاب الديمقراطي»، لتنتج المزيد من آليات الانقسام والتشرذم والضعف والصراع.
إسرائيل ضعيفة، ولا تستطيع كلّ آلياتها العسكرية والاستيطانية والاستخبارية منع وقوع عمليات عسكرية تزداد اتّساعاً وخبرةً وقدرةً على إلحاق الأذى بالمحتلّين.
بعد عمليتي حوّارة والخليل، تصاعدت حُمّى التهديدات، وتبارى الكثيرون في إطلاقها، حتّى ظنّ البعض أنّ الانتقام الإسرائيلي قادم بسرعة، وأنّه سيكون شديداً.. لكن هذه التهديدات تبدّت بسرعة، وابتلع الكلّ لسانه بعد عملية نابلس وعملية الدهس، ومقتل جندي إسرائيلي وإصابة آخرين.
ليس لدى المستوى السياسي، سوى ما تمّ تبادله من اتّهامات بين الجيش والمستوطنين: الأوّل، متّهم بالضعف والتراخي، والثاني، متّهم بممارساتٍ إرهابية تتسبّب في استفزاز الفلسطينيّين.
أمام هذا الضعف الإسرائيلي والارتباك ومحدودية الخيارات، تبادر الإدارة الأميركية لحماية إسرائيل، ومنع انزلاق الأوضاع نحو تصعيدٍ كبيرٍ وواسع.
أميركا وفق حساباتها الإقليمية، وتركيزها على محاولة «تطبيع» العلاقات الإسرائيلية السعودية، وإبقاء «البركان» الإيراني خامداً تسعى بكلّ قوّة لنزع فتائل التصعيد حتى لا تقع في ورطة خلط الأوراق في الإقليم، وحماية إسرائيل من نفسها.
تقوم الولايات المتحدة بنشر قوّاتها على الحدود السورية العراقية بعرض ستّين كيلومتراً، لفصل السّاحة العراقية عن بقية السّاحات في حال اندلاع مواجهةٍ شاملة. وترسل، أيضاً، مبعوثاً إلى لبنان لخفض التوتّر بين «حزب الله» وإسرائيل، وتبدأ بمحاولاتٍ لترسيم الحدود البرّية، ثمّ تدعم مصر، وتطالبها بالتدخُّل لضبط الأوضاع بين «حماس» وإسرائيل، وحيث بدأت «حماس» التحرُّش من خلال إعادة تنشيط فعاليّات «مسيرات العودة» على الحُدود.
وكلّ الوقت تطالب الإدارة الأميركية نتنياهو بكبح جماح وتطرّف الوزيرين بن غفير وسموتريتش، وتتّهمهما بالإرهاب، وتطالب بخفض التصعيد ومُمارسة سياسة ضبط النفس، والعمل على «تقوية» السلطة الوطنية الفلسطينية، لكنّها حتى الآن لم تنجح.
في التقييم العام، يظهر أنّ يد الشعب الفلسطيني ومقاومته هي العليا، وأنّ إسرائيل مشلولة تماماً إلى حين، غير أنّ ذلك لا ينطوي على أيّ ضمانة لعدم وقوع الانفجار الكبير.. فالمسألة تبقى مسألة وقت طالما تصرّ إسرائيل على سياساتها وسلوكها.
أمريكا تشتري "زمن ترتيباتها الإقليمية" بالدم الفلسطيني
26 اغسطس 2024