ماذا يحدث في الغرب الإفريقي؟

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

 

 


انقلاب في الغابون، وسبقه انقلاب في النيجر، ومن قبله في بوركينا فاسو.. تراجع للهيمنة الفرنسية في الإقليم، وتزايد للنفوذَين الروسي والصيني.. ما هو دور أميركا، وإسرائيل؟ وما دلالات تلك الأحداث المتسارعة.  
يمكن تناول القضية من جوانب عدة، وهناك أكثر من مدخل لفهم ما يدور في القارة السمراء، وقد اخترت قصة بوركينا فاسو بالذات، نظراً للدلالات الرمزية العديدة التي تحملها، والتي تزودنا بمفاتيح يمكن من خلالها الوصول لفهم أعمق وأشمل.  
يستعرض أشرف إبراهيم، في برنامجه «المخبر الاقتصادي» قصة «فولتا العليا» منذ استقلالها عن فرنسا (صارت تسمّى بوركينا فاسو، وتعني أرض الرجال الشرفاء)، حيث تركتها فرنسا بعد ستين سنة من الاستعمار بلداً محطماً اقتصادياً واجتماعياً، وبلا بنية تحتية، وبنسبة أمية بلغت 90%، وبلا أفق اقتصادي رغم أنها غنية بالثروات.  
بعد الاستقلال عام 1960 حصلت في البلاد أربعة انقلابات عسكرية كان آخرها في العام 1983، في تلك السنة تولى ضابط شاب برتبة نقيب رئاسة الحكومة، وكان اسمه توماس سانكارا، وهو شخصية وطنية بتوجهات يسارية، وكان يتمتع بشعبية واسعة وبسمعة طيبة، لما عُرف عنه من نزاهة، ولما يتمتع به من قدرة خطابية كان يوجهها دوماً ضد فرنسا، بصفتها المسؤولة عن خراب البلاد ومصائبها.  
بدأ توماس يطالب بتسليم السلطة للمدنيين، ومحاربة أوكار الفساد، ما أدى إلى صدام بينه وبين الرئيس المدعوم بالنخب العسكرية، لينتهي به الأمر في السجن ومعه مجموعة كبيرة من أنصاره.. وهنا تدخل أحد كبار الضباط واسمه باليس كامباوري والذي تربطه بتوماس صداقة قديمة ومتينة.. فدبّر انقلاباً عسكرياً على الرئيس، لاقى تأييداً شعبياً ومطالبة بتعيين توماس رئيساً للبلاد.
وهكذا في نفس العام 1983 صار توماس رئيس بوركينا فاسو وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، كأصغر رئيس إفريقي.. وقد بدأ عهده بإصلاحات جذرية طالت هياكل الدولة والجيش والاقتصاد، واتبع سياسة تقشف صارمة، فصادر جميع السيارات الفارهة من كبار الموظفين وباعها ووضع أثمانها في خزينة الدولة، ثم عدّل رواتب الموظفين بدءاً من نفسه والوزراء وكبار الموظفين حتى أصغر موظف بحيث أصبحت متساوية (بما يعادل 480 يورو).. وقام بإصلاحات زراعية مكنته من تحقيق الاكتفاء الذاتي، وأمّم زراعة القطن التي كانت تحت الاحتكار الفرنسي، كما اقترح على دول الجوار إقامة حلف اقتصادي والاستغناء عن العملة الفرنسية المفروضة عليهم.
ثم وضع خططاً لتطوير البنية التحتية، واهتم بالتعليم وبناء المدارس، فزادت نسبة التعليم خلال ثلاث سنوات من 10% إلى 22%، وأقيم في عهده العديد من المشاريع الاقتصادية والمنشآت الصحية. ومن منجزاته شن حملة تطعيمات شملت 2.5 مليون طفل، وفرض التعليم الإلزامي للفتيات، والقضاء على ظاهرة ختان البنات.
سياسياً، بدأ بمحاولات إصلاح العلاقات مع جيرانه، وهاجم في تصريحاته حكومة جنوب إفريقيا العنصرية، والاحتلال الإسرائيلي، والهيمنة الإمبريالية. كما استمر في انتقاداته اللاذعة ضد فرنسا، حتى بحضور الرئيس ميتران شخصياً، وفي خطابه في الأمم المتحدة عام 1984 أخرج مسدسه من جرابه، وقال: إن هذا الرصاص حقيقي، وسنطلقه على الإمبريالية.
نزاهته وتقشفه ومحاربته للفساد أزعجت رؤساء الدول المجاورة، الذين خافوا أن تنتقل عدوى الإصلاح إلى بلادهم عبر ثورات شعبية. أما أميركا فقد أقلقها توجهات الرئيس الجديدة، وخشيت انتقاله إلى المعسكر الاشتراكي، في حين كانت فرنسا الأكثر قلقاً ورعباً من التغيرات التي صارت في البلد، فخافت على مصالحها واستثماراتها وتراجع نفوذها.  
بدأت وكالات المخابرات الأميركية والفرنسية بالتخطيط للتخلص من الرئيس توماس، وما كان يمنعها من ذلك شعبيته الجارفة، لذا بدأت أولاً بشن حرب نفسية وإعلامية تستهدف توماس شخصياً، عبر بث أخبار مفبركة وإشاعات تمس سمعته، واتهامه بأنه متحرش، ودكتاتور، وفاسد، ومصاب بجنون العظمة، تمهيداً لتحطيم قاعدته الشعبية التي ظل يستمد قوته منها.  
وإضافة إلى الحرب الإعلامية، فرضت فرنسا عقوبات اقتصادية على البلد، بهدف التضييق على الشعب، والضغط عليه، ليفهم أن أزمات البلاد الاقتصادية سببها الرئيس وسياساته، ولأنه يرفض الاقتراض من صندوق النقد الدولي.
ومع توالي الضربات الخارجية، واستمرار الحرب الدعائية، وتآمر دول الجوار، بدأ الحصار يحكم أكثر فأكثر على الرئيس توماس، إلا أن الضربة القاضية أتت من صديقه القديم باليس كامباوري، حيث تزوج كامباوري من سيدة بوركينية تسمى «شانتيل» وهي من أسرة ثرية عرفت بارتباطاتها مع الفرنسيين، وكانت شانتيل من أشد المعجبين بفرنسا، وأشد الكارهين للرئيس توماس، رغم أنه صديق زوجها.. إلا أنها نجحت في تحريضه عليه، وبدعم من المخابرات الفرنسية دبّر كامباوري انقلاباً عسكرياً جديداً على الرئيس في العام 1987، وأرسل له فرقة قتلة، ليقتلوه مع سبعة من وزرائه ومرافقيهم في مذبحة دموية.. لتؤول السلطة للرئيس الجديد كامباوري، والذي استمر حكمه حتى العام 2014، بعد أن أطاحت به ثورة شعبية.
في العام الماضي (2022)، ظهر رئيس جديد لبوركينا فاسو اسمه إبراهيم تراوري، يشبه سانكارا إلى حد كبير: ضابط شاب، وطني، طموح، يكره فرنسا، ويعرف أنها سبب البلاء، وقد طرد القوات الفرنسية المتواجدة في البلاد، كما ألقى خطاباً نارياً أمام بوتين شن فيه هجوماً على الاستعمار الذي نهب إفريقيا، وقد أيّد الانقلاب الذي وقع في النيجر في الشهر الماضي، والذي رفضته فرنسا بطبيعة الحال.   
قصة بوركينا فاسو تكررت في معظم دول إفريقيا (وبالمثل في أميركا اللاتينية)، بسيناريوهات وأسماء مختلفة، ولكن بنفس المضمون والمحتوى: قوة استعمارية غاشمة، مهيمنة، تنهب ثروات البلاد، وتفرض عليها سياسات اقتصادية ونقدية معينة، وتقيم في أراضيها شركات عابرة للقارات توجه النشاطات الزراعية والصناعية نحو المركز، بحيث تحتكر الأسواق، وتبقي الاقتصاد تابعاً.. منشئة حولها طبقة من المنتفعين والكومبرادور، ومتحالفة مع تجار السلاح وأمراء الحرب والإرهابيين، في ظل نظام سياسي فاسد، يدير هذا الفساد مقابل تأمين حمايته (التي تتولاها الشركات الأمنية والمرتزقة)، بحيث تتشكل طبقات من المنتفعين تلقي كل طبقة ما يفيض من فسادها إلى الطبقة الأدنى منها، بحيث لا يصل إلى الشعب سوى فتات الفتات، ليظل تحت القمع والقهر والجوع والفقر.. وتظل البلاد مرتعاً للفاسدين وأسيادهم الأوروبيين والأميركيين.
وكلما ظهر قائد وطني، وأراد الإصلاح، وتحرير بلاده من التبعية وتخليصها من الظلم والفساد، يتم اغتياله على الفور، أو إغراق البلد في حرب أهلية، أو تنصيب رئيس فاسد وموالٍ عبر مسرحية الانتخابات.
لا تختلف قصة توماس عن قصة لومومبا كثيراً، وفي إفريقيا قصص شبيهة لا تنتهي، وصراع لا يتوقف، طالما الغرب يفكر بعنصرية الرجل الأبيض.