لطالما ألهمت الثنائيات فنون الدراما من المسرح إلى السينما، ثم التلفزيون، بالعديد من القصص التي كان بطلاها الطيب والشرير، الأعمى والأطرش، الذكي والغبي، القوي والضعيف، العقل والعضلات، وما إلى ذلك، أما في واقع السياسة الإسرائيلية، فإن ثنائية اليمين والتطرف لها قصة طويلة، كان بنيامين نتنياهو دائما الطرف الثابت فيها فيما كان الطرف المتغير منها كل فترة رجلا آخر، أفيغدور ليبرمان، نفتالي بينيت، ثم إيتمار بن غفير.
وبنيامين نتنياهو، كان فتى يمينيا، حيث نشأ في بيت تربى على تعاليم جابوتنسكي، وتعلم السياسة في ليكود مناحيم بيغن وإسحق شامير، ولم يخطر بباله أن يتقدم مسرح الليكود بسرعة خاطفة، وهو لم يبلغ الخمسين بعد، ذلك أن الليكود ذهب لانتخابات العام 1996 وهو يتوقع الهزيمة، لأن اليمين كان متهما باغتيال إسحق رابين قبل ذلك بعدة أشهر، وكان مرشح اليسار شمعون بيريس عراب أوسلو، والسياسي المخضرم، لكن حدثت المفاجأة، فوجد اليميني نتنياهو نفسه رئيسا للحكومة الإسرائيلية، وهو الذي وجد نفسه قبل ذلك زعيما لليكود الذي كان فيه في ذلك الوقت "ملك إسرائيل" أرئيل شارون.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل كان رئيس الحكومة الأول الذي يولد في إسرائيل، بعد إعلان قيامها، في العام 1949، وأول رئيس حكومة ينتخب مباشرة من جمهور الناخبين، أي بصلاحيات أكبر بكثير من تلك التي تمتع بها كل رؤساء الحكومات السابقين، من ديفيد بن غوريون، إلى إسحق رابين، مرورا بمناحيم بيغن وغولدا مائير وإسحق شامير، والأهم هو أنه وجد نفسه وهو اليميني الذي تربى ونشأ على تعاليم جابوتنسكي المتطرفة، يقود حكومة عقدت لتوها اتفاقية سلام مع منظمة التحرير الفلسطينية، نجمت عنها إقامة سلطة فلسطينية على أرض فلسطين المحتلة من قبل إسرائيل، وهو الذي عارض بالطبع كما كل حزبه تلك الاتفاقية، وهكذا سار على طريق وعر، حاول خلاله أن يوازن بين متطلبات الحكم، وبين قناعاته الشخصية والحزبية الرافضة لكل ما هو فلسطيني، إلى أن سقط بعد ثلاث سنوات، بعد أن اضطر إلى توقيع اتفاق "واي ريفر" الخاص بإعادة انتشار الجيش الإسرائيلي في مدينة الخليل الفلسطينية المحتلة.
مرت بعد ذلك عشر سنوات، لم يعد خلالها نتنياهو لمقعد رئيس الحكومة، رغم أن اليمين والليكود قد عادا إليه بعد أقل من ثلاث سنوات أمضاها منذ هزم نتنياهو في انتخابات العام 1999، أي إيهود باراك، ولكن اليمين عاد بمن كان يشكل ثنائيا مع نتنياهو، ولكن بشكل مناكف، نقصد أرئيل شارون، الذي أظهر تطرفا يمينيا وهو خارج الحكم، ليصل إليه، وذلك حين تحمل مسؤولية اندلاع المواجهة العام 2000، حين اقتحم المسجد الأقصى في القدس، أما السنوات العشر فأمضاها نتنياهو وهو يراقب حكما يمينيا دونه، تولى قيادته أولاً شارون، ثم إيهود أولمرت، ثم تسيفي ليفني، وهكذا فإن نتنياهو قد أضاف إلى تجربته في الحكم، وهو ما زال صغيرا على أن يكون رئيسا للحكومة، خبرة زعيم المعارضة.
وحقيقة وجود التنوع السياسي في الخارطة الإسرائيلية، كذلك اتباع إسرائيل لنظام التمثيل النسبي الذي يتعامل مع عموم الدولة كدائرة انتخابية واحدة، قد دفع بالعديد من الأحزاب للتمثيل داخل الكنيست، وفي ظل تواجد حزبين كبيرين، وذلك خلال ثلاثة أو أربعة عقود، هما العمل والليكود، أي حزب اليسار وحزب اليمين، واللذين كانا في بعض المحطات، يتقاربان في عدد المقاعد، لكن دون أن يتمكن أحدهما من القدرة على تشكيل الحكومة، وإن بأغلبية بسيطة، أي نصف عدد المقاعد + 1، لذا فإن سنوات الثمانينيات من القرن الماضي مثلا، شهدت للتغلب على تلك الحالة، اختراع حل الحكومة برأسين، أو حكومة الوحدة، حيث تولى كل من إسحق شامير وشمعون بيريس حكومة كهذه لمواجهة الانتفاضة الأولى ما بين عامي 1988 - 1992، كذلك كان يضطر أحد الحزبين إلى تقديم أثمان باهظة لأحزاب صغيرة تحصل على عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ومن ثم يقيم ائتلافا حزبيا، يتمتع بأغلبية برلمانية، إلى أن عملت إسرائيل بالانتخاب المزدوج، الذي يجمع ما بين النظام البرلماني والنظام الرئاسي. أي انتخاب رئيس الحكومة بشكل مباشر من الناخبين، مع انتخاب أعضاء الكنيست، وهكذا كان نتنياهو أول رئيس حكومة ينتخب وفق هذا النظام العام 1996، وكان هو أيضا أو من يخسر وهو رئيس حكومة مرشح وفق هذا النظام أمام إيهود باراك، حيث كانت تلك الانتخابات هي المرة الثانية والأخيرة التي يجري فيها الانتخاب وفق ذلك النظام وذلك العام 1999.
ومع تقدم شارون كمتطرف أكثر من باراك، تواجه باراك والرئيس ياسر عرفات في كامب ديفيد، بضغط من بيل كلينتون للتوصل إلى حل نهائي، وحين رفض الخالد عرفات، عرض باراك، دفع باراك بشارون، ليواجه الشعب الفلسطيني وقائده الرافضين لرفع راية الاستسلام، والقبول بالحل المنقوص، أي الحل دون انسحاب إسرائيل الكامل لحدود الرابع من حزيران 1967، والقدس الشرقية عاصمة فلسطين وعودة اللاجئين، أي أن ثنائية الطيب والشرير، أو المسؤول المعتدل والمعارض المتشدد، كثيراً ما تمارس في إسرائيل، وكان باراك صريحا تماما حين هدد الرئيس الخالد عرفات في كامب ديفيد بشارون، وشارون معروف لعرفات منذ حين كان وزيراً للدفاع العام 1982 بفاشيته تجاه الشعب الفلسطيني وهو من قاد اجتياح لبنان ذلك العام واحتل بيروت، وهو من شارك في مجزرة صبرا وشاتيلا مع الكتائب اللبنانية، وهو من واجه المقاومة الشعبية في غزة بعد احتلالها مباشرة، حين كان قائد المنطقة الجنوبية.
يمكن تعداد العديد من ثنائيات السياسة الإسرائيلية، بما في ذلك ثنائية شمعون بيريس وإسحق رابين، ثنائية مناحيم بيغن وإسحق شامير، خاصة حين يكون الواحد من هؤلاء في الحكم، وبالتحديد رئيسا للحكومة، فغالبا ما يشد على يد من يكون بمقدوره أن يمارس التطرف أكثر منه، أي يعبر عنه، وذلك لأن من يكون في الموقع الرسمي، يكون مضطرا إزاء العالم الخارجي لأن يظهر قدرا ما من الاعتدال والمسؤولية!
لكن ثنائية نتنياهو، لم تقتصر على العديد من المتطرفين داخل الليكود، أو خارجه ممن تحالف معهم خلال فترة وجوده الطويلة كرئيس حكومة، بل هي كذلك شملت مسؤولين أميركيين، كان أهمهم بالطبع الرئيس السابق دونالد ترامب، حيث تناغم الرجلان على قاعدة التطرف والعداء للشعب الفلسطيني بما في ذلك سلطته الوطنية، والتنكر للحقوق الفلسطينية، حتى تشاركا في "صفقة العصر" سيئة الصيت والسمعة التي أسقطها شعبنا وقيادته بصمودهما ورفضهما لها، فكان أن عوض ترامب نتنياهو بدلا عنها باتفاقيات أبراهام.
وحقيقة أن نتنياهو هو من قاد طريق العودة عن أوسلو، وهو ذات الطريق الذي أدى إلى تلاشي اليسار الإسرائيلي، وإلى تعزيز اليمين، ومن ثم تحوله نحو اليمين المتطرف، تعني بأن نتنياهو في نهاية المطاف هو عراب التطرف الإسرائيلي، كذلك هو في آخر مشواره السياسي يهمه أن يختم حياته السياسية بـ"النهاية السعيدة" لذلك النهج الذي سار عليه، ولم تكن رعايته للمتطرفين خلال رحلته السياسية، إلا من أجل تحقيق غاية جابوتنسكي، أي دحر فكرة الدولة الفلسطينية، لذا فإن ثنائية التطرف الأخطر هي التي تقام حاليا بين دولة إسرائيل، و"دولة المستوطنين"، حيث يمثل نتنياهو رئيس حكومة إسرائيل فيما يمثل بن غفير رئيس أركان دولة المستوطنين، وهكذا فإن نتنياهو يقوم برعاية وحماية بن غفير في كل ما يفعله، تماما كما قام ترامب بالشد على يد نتنياهو، وتماما كما فعل ونستون تشرشل وهاري ترومان مع بن غوريون، ولعل توافق نتنياهو مع بن غفير، في الموقف العنصري الذي يميز بين حركة وحياة المستوطنين، والذين وجودهم في الضفة الفلسطينية بحد ذاته هو غير شرعي، وبين حياة وحركة سكان الضفة الشرعيين، خير دليل على أن جرم العرّاب ليس أقل من جرم الفاشي.