نفتح اليوم، وفي الختام، نافذة أخيرة نطل منها على عالم كونديرا. وما زلنا عند خطاب تسلّم الجائزة من الإسرائيليين، الذي أثنى فيه عليهم وعلى دولتهم. ولا شيء، في الواقع، يثير غبطة هؤلاء أكثر من الاعتراف بهويتهم الوهمية والمتوهّمة كجزء من أوروبا، وما أدراك إذا جنح الإنسان إلى حد الكلام عن قلب هو أوروبي في الجوهر (بل خلاصة ثقافية لأوروبا) ولكنه يوجد خارج جسده الطبيعي، في آسيا الغربية، لا في أوروبا.
لا نتوقع من كونديرا أن يكون خبيراً بتواريخ اليهود الأوروبيين. لذا، نستدرك بالقول: إن "القلب خارج الجسد" ليس مجرّد "كلام فاضي" وحسب، بل ويتعارض، أيضاً، مع حقيقة أن "سفر التكوين" الفعلي للدولة الإسرائيلية مصدره البيئة السياسية والاجتماعية ليهود أوروبا الشرقية Ostjuden، وأن هؤلاء غالباً ما عوملوا بقدر كبير من التوجّس والازدراء من جانب يهود أوروبا الوسطى والغربية، الذين اعتبروا أنفسهم أكثر تحضّراً منهم. بمعنى آخر: فكرة اليهودي، كما فكرة أوروبا، كلتاهما مسكونة بالتناقضات، ومتعددة الطبقات، لا تحتمل الاختزال أو التبسيط.
ومع هذا في الذهن، يصح القول، في حالة كونديرا: إن حكاية "القلب خارج الجسد" يمكن تفسيرها استناداً إلى معطيات شخصية تماماً، فقد صار هو، أيضاً، تمثيلاً حياً لأكثر من خارج: خارج الأيديولوجيا، وخارج تشيكيا، وخارج اللغة التشيكية (وكلها أمهات طبيعية) ولم يبق له من بيت للسكنى خارج الرواية، التي يقول عنها: "الجنّة المتخيّلة للأفراد"، و"المكان الذي لا يملك أحد فيه الحقيقة". وبهذا المعنى، صار أوروبياً كاملاً، متعالياً على الجغرافيا السياسية، والقوميات، واللغات، ووارثاً لثقافة السؤال، أي صار يهودياً كاملاً. ما معنى هذا كله؟
في كلام ماركيز عن المُعلّم هِمنغواي، قال: إن لكل خيّاط درزته الخاصة، ودرزات المُعلّم تبرز في نصه، كما المسامير المعدنية الضخمة في عربات القطار، وقضبان السكك الحديدية. ولنقل، على سبيل القياس: إن درزات كونديرا الخاصة تتجلى في تلك المساحة الدائمة، والمرئية، بين الروائي وشخصياته، وبين الشخصيات نفسها وما تفعل وتقول، وبين الروائي والكاتب (تكلمنا عن انفصال الأوّل عن الثاني في مقالة سبقت). الكل، هنا، يراقب الكل، والكل في حالة توجّس من الكل، إلى حد لا ينفتح معه السرد (الروائي) ولا يصير ممكناً، إلا إذا دوّت في جنباته ضحكات الآلهة (الساخرة). وبناء عليه، الرواية لا تنجح إلا إذا تفوّقت شخصياتها على كتّابها، وفرضت عليهم حلولاً غير متوقّعة.
يصح القول: إن هذه خلاصة نموذجية لتجربة تسديد فواتير العيش في ظل النظام الشمولي (الشخصية بما فيها من مخاطر قد تودي بالحياة، أو تحد من نطاقها، والمعنوية بما فيها من جراح نرجسية وتجارب رضيّة) ومن المُجدي، والمُغري، فعلاً، لغرض هذه المعالجة، أن نتوقّف عند استدراك كونديرا في حفل استلام الجائزة الإسرائيلية، فبعد الكلام عن انفصال الروائي عن الكاتب، وشجرة عائلة الرواية، والغصن الذي يقف عليه، و"القلب الذي خارج الجسد"، قال في جملة ختامية: "نسيت أن الإله يضحك عندما يراني أفكّر".
نرى في الجملة الختامية المساحة التي سبق وتكلمنا عنها، درزة كونديرا الخاصة. وإذا نحيّنا الاعتبارات "الأدبية" جانباً، لا أعتقد أن من حق الفلسطينيين، على نحو خاص، وأنصارهم في كل مكان آخر، وبين الإسرائيليين أنفسهم، تجاهل ما تنطوي عليه من دلالات ومفارقات وثيقة الصلة بالصراع في فلسطين وعليها:
فهل ثمة من ضحكات إلهية يمكن أن تكون أكثر سخرية ودوياً مما يستنفر وجود أشخاص كبن غفير وسموتريتش على قمة هرم السلطة في "القلب الذي يوجد خارج الجسد"، وهل ثمة من علامات مكر التاريخ أشد دلالة من تحوّل القلب نفسه إلى مصدر إلهام لا لليمين الغربي وحسب (بكل مكوّناته الشعبوية، والعنصرية، وتاريخه المعادي للسامية)، بل وفي كل مكان آخر، أيضاً؟ وهل ثمة من قهقهات ساخرة أكثر صراحة، وفصاحة، من حقيقة أن "القلب الذي خارج الجسد"، صار حليفاً وحامياً، بعد "سلام إبراهيم"، لليمين الديني والقومي الرجعي، وكيانات سياسية تنتمي إلى ما قبل عصر الدولة الحديثة، في آسيا الغربية؟
على أي حال، وبعدما قطعنا كل هذه المسافة، صار من الواضح، الآن، أن سلسلة المعالجات هذه لم تستهدف التدليل على ما يسم منطق كونديرا من تناقضات، فثمة ما هو أبعد وأهم من هذا بكثير، أعني ضرورة وأهمية إضافة درزته الخاصة، وما يتردد في جنبات نصوصه الروائية، وتعليقاته على الشأن العام، من ضحكات إلهية ساخرة، إلى كل نقاش محتمل للمسألة الإسرائيلية، خاصة في حقول السياسة والثقافة في الغرب. فالكوميديا السوداء عنصر مزعزع لمشروع يستمد ما يبرره من تاريخ "دامع العينين" للمسألة اليهودية، ولكنه يفشل في تأمل صورته في مرآة الزمن، وعيون الآخرين.
وثمة فائدة غالباً ما تسقط من الحسبان، أعني لذة المعرفة المجرّدة حتى من كل قيمة نفعية مباشرة. وما أدراك إذا كانت للذة المعرفة قيمة عملية، أيضاً، تتمثل في فهم ما نتكلّم عنه، لا على طريقة بوستات "الفيسبوك"، وتغريدات "تويتر"، بل بالطريقة التقليدية (القراءة والتحصيل) التي لا تنوب فيها الشطارة عن المعرفة ومؤهلات التفكير المنطقي، ولا تُصلح فيها وطنيات وشعبويات خفة الدم، أو اليد ما أفسد الدهر.