اعتزال كوندوليزا رايس: قبائح السياسة وملايين البورصة

تنزيل (16).jpg
حجم الخط

بقلم صبحي الحديدي

في ذروة تصدّرها، لسنة سادسة على التوالي، موقع المرأة/ السياسية الأكثر تفضيلاً لدى الأمريكيين، حسب استطلاعات رأي أسبوعية «واشنطن ويكلي»؛ ومن سدّة منصبها الحالي كمديرة لمعهد هوفر الشهير، التابع لجامعة ستانفورد؛ نقلت أوساط كوندوليزا رايس أنها، وهي في الـ68 من العمر، تنوي اعتزال السياسة نهائياً: «إذْ نتقدّم في العمر، هنالك في الحياة أطوار ندخلها، وأن أكون سياسية أمر لم يعد ينطوي على متعة» نُسب إليها القول في مجلة «الناس والمال» الاقتصادية الأمريكية.
ليس خارجاً عن هذه السياقات ما أوردته المجلة ذاتها حول إيرادات رايس المالية خلال ما انقضى حتى الآن من أشهر 2023: 75 مليون دولار، الأعلى بالمقارنة مع 10 نساء/ سياسيات في العالم، وثروة شخصية تُقدّر بـ215 مليون دولار؛ لا تأتي فقط من «أتعاب» محاضرات ومشاركات في مؤتمرات دولية رفيعة المستوى، بل كذلك من أسهم في البورصة، واستثمارات عقارية وتعويضات عن الظهور على أغلفة مجلة «كوفر غيرل» المختصة بأدوات التجميل، فضلاً عن امتلاك مطاعم عديدة في واشنطن، وحصص في نادٍ لكرة القدم، وخدمات لشركة عطور…
للأمريكيين في ما يفضّلون من شخصيات، وطرائق ما يجنون من ملايين، شؤون شتى تتجاوز ما يمكن أن يشمل سواهم، على نطاق العالم الرأسمالي المعاصر عموماً؛ وهذا، غنيّ عن القول، تفصيل ليس هنا مقامه. غير أنّ خبر اعتزال رايس لا يصحّ أن يمرّ من دون أن يستدعي هذا أو ذاك من الفصول الأشنع، السياسية والأخلاقية، في سجل وزيرة خارجية الولايات المتحدة الـ66 بين 2005 وحتى 2009، ومستشارة الأمن القومي الأمريكي الـ19 بين 2001 وحتى 2005.
وفي الوسع البدء من صفة «الأولى» التي اقترنت بمواقع عديدة حساسة شغلتها رايس في الإدارات الأمريكية، بينها أنها كانت أوّل امرأة أفرو ـ أمريكية تشغل منصب وزيرة الخارجية، وأوّل امرأة مستشارة لمجلس الأمن القومي، وأوّل مستشارة شخصية لشؤون الشرق الأوسط لدى حاكم ولاية تكساس، جورج بوش الابن (الذي سيُنتخب رئيساً للولايات المتحدة، مرّتين). وكان كتابها «لا يعلو عليه شرف: مذكرات سنواتي في واشنطن» 2011، سعى إلى تبييض صفحة رايس، وترقيتها إلى مصاف الشرف الأعلى الذي يلمّح إليه العنوان؛ فلم تنته معظم فصوله إلا إلى تثبيت النقائض، أو كشف ما تمّ التستّر عليه من وقائع فاضحة.
حول سوريا، على سبيل المثال، تظلّ رايس مبتكرة نظرية «التغيير من داخل النظام» وليس تغيير النظام؛ عبر الإصلاحات التجميلية تارة، أو ممارسة الضغوط اللفظية طوراً، فضلاً عن الغمز بين حين وآخر إلى طراز منتقى من «معارضة» سورية مستهلَكة، متأمركة سرّاً أو علانية، ومنقطعة الصلة عن الشعب السوري والمعارضة الفعلية في الداخل. ولعل الكثير من تدابير تلك النظرية، وهي في كل حال فقيرة محدودة التفاصيل، ما تزال معتمَدة في واشنطن، حتى إذا كان هذا الناطق الرسمي أو ذاك، باسم البيت الأبيض أو الخارجية، يُدخل عليها تعديلات لفظية بدورها.

بيد أنّ محاضرتها الشهيرة، في جامعة القاهرة صيف 2005، كانت واحدة من أوضح «تجليات» تفكير رايس حول الشرق الأوسط عموماً، والعالم العربي خصوصاً. يومذاك بدأت هكذا: «طيلة 60 سنة بحثت بلادي، الولايات المتحدة، عن الاستقرار على حساب الديمقراطية في هذه المنطقة، هنا في الشرق الأوسط، ولم ننجز أيّاً منهما. الآن نحن نتخذ مساراً مختلفاً. نحن ندعم الطموحات الديمقراطية لكلّ الشعوب. وثمة اليوم أنظمة غير ديمقراطية تهدّد الحرّية. البعض يظنّ أنّ هذه واحدة من حقائق التاريخ الثابتة. ولكن هناك مَنْ يعرفون الأفضل. ويمكن العثور على هؤلاء الوطنيين المتعطشين للحرّية في بغداد وبيروت، في الرياض ورام الله، في عمّان وطهران، وهنا في القاهرة تحديداً». ليس في دمشق، طبعاً، رغم أنها جارة بيروت وبغداد وعمّان؛ ورغم أنّ النظام السوري كان نسيج وحده في تدشين الاستبداد الوراثي، وحكم العائلة؛ ورغم أنّ الاجهزة الأمنية السورية أقدمت، في الفترة ذاتها، على إغلاق منتدى الأتاسي واعتقال أبرز قياداته.
أمّا حين غادرت الموقع الرسمي، وصار امتداح «الربيع العربي» مغنماً لكلّ رافع عقيرة في واشنطن؛ فإنّ رايس لم تتردّد في إصدار هذا الحكم الرهيب على النظام السوري: «لقد أتى دوركم. وأياً كان النظام الذي سيخلفكم، فإنه لن يكون أسوأ في نظر شعبكم، وفي نظر العالم، ممّا كنتم عليه أنتم». ثمّ أردفت، خلال واحدة من جولات توقيع كتابها: «الأسد يقود سوريا إلى حافة الحرب الأهلية» وتنكيله بالمعارضين «يخلق وضعاً بالغ الخطورة» وإسقاطه «سوف يكون أمراً عظيماً للشعب السوري، ولمصالح الولايات المتحدة، وكلّ الباحثين عن شرق أوسط أكثر سلاماً»! وقد يصعب أن ينتظر المرء من رايس موقفاً صامتاً إزاء جرائم النظام السوري، إلا أنّ الانقلابات الفاضحة في المواقف، بين ليلة وضحاها، بدت أقرب إلى «الشقلبة» منها إلى التنقّل أو التبدّل.
وفي محاضرة القاهرة مزجت رايس بين الفكر والفلسفة والسياسة والتبشير، وبين نقد الماضي والرجم بالغيب عن المستقبل، وبين الترهيب والترغيب سواء بصدد الحاكم العربي (والحلفاء في القاهرة والرياض تحديداً) أو ما يخصّ شعوب المنطقة إجمالاً. وكانت بعض الفقرات قد انطوت على عبارات من النوع الوردي الزاهي، الباسم المشرق… كهذه مثلاً: «إنّ الخوف من الخيارات الحرّة لا يمكن أن يكون بعد الآن مبرراً لرفض الحرية» أو: «هناك مَن يقولون إنّ الديمقراطية تقود إلى الفوضى والصراع والإرهاب، والحقيقة أنّ العكس هو الصحيح: إنّ الحرية والديمقراطية تشكلان الفكر الوحيد الذي يملك قوّة التغلّب على الكراهية والانقسام والعنف»… كما أوضحت رايس مجموعة معايير محددة للحكم الديمقراطي كما تفهمه الولايات المتحدة، وكما تريد أن تراه في الشرق الأوسط. وإذا كانت قد بدأت بالانتخابات الحرّة النزيهة، فإنها حدّدت شكل الحكومات الديمقراطية المطلوبة: تلك التي «تحمي سلسلة حقوق أساسية لجميع المواطنين، بينها الحق في حرّية الكلام، والاجتماع، والعبادة كما يشاء المرء، وتعليم الأبناء، ذكوراً وإناثاً، والتحرّر من زوّار منتصف الليل التابعين للبوليس السرّي».
حول الملفّ الفلسطيني ذهبت رايس إلى شمعون بيريس في كتابه «الشرق الأوسط الجديد» 1993، وأعادت العزف على أنغام الحلم باتحاد شرق ـ أوسطي على غرار الاتحاد الأوروبي؛ ولكنها، مثله، لم تكترث بالحقائق الدامية على الأرض قدر اكتراثها بالكيمياء التي تقلب الكابوس الأسود إلى حلم وردي. وإذا كان بيريس قد أبدى استعداده للتضحية بأغلى الصور على قلوب الإسرائيليين الأوائل (صورة المقاتل الذي يحتضن رشاش الـ»عوزي» وسط حقل الشعير أو بيارة البرتقال)؛ فإنّ رايس شاءت عكس الصورة تماماً: مشاهد الغارات الإسرائيلية الهمجية على بيروت وصيدا وصور والنبطية.
سلسلة القبائح قد لا توازي ملايين المصارف والبورصات في سجلّ رايس، غير أنّ الكثير منها (منح المخابرات المركزية الأمريكية الإذن باستخدام طرائق التعذيب الوحشية في العراق وأفغانستان وغوانتانامو، مثلاً)؛ يصعب أن ينقذ رايس، معتزلة السياسة، من الاستقرار الأبدي ضمن لوائح الساسة الأمريكيين، رجالاً ونساء، أصحاب المواقع الأشنع والأبشع. والحال أنه لا تنقضي سنة إلا ويرسل التاريخ المزيد من هؤلاء إلى قيعان العار؛ فيتعظ من يحسن إدراك العظة، ويتابع الغيّ كلّ متعامٍ متلهف على القفز إلى «مزبلة التاريخ» حسب تعبير تروتسكي.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس