مطالعة في التطبيع مع الاحتلال وحلقاته الأخيرة الموعودة

image_processing20221109-112456-z4qcet.jpg
حجم الخط

بقلم يونس العموري

 

ويكون ان يأتي الخبر اليقين ولو بعد حين ، وهذه المرة الكل بانتظار يقينية الخبر المعلوم والمحسوس من ام القرى وقبلة المسلمين ، وسادة البيت العتيق ، وقد يكون المفروغ منه ، وكأنه الواقع القادم في ظل إعادة تشكيل وتشكل الخارطة السياسية الإقليمية وعلى وجه التحديد العربية وتصدر اتفاقيات التطبيع والصلح والتصالح وابرام الاتفاقيات العسكرية والأمنية بالتعاون المشترك مع الدولة العبرية من قبل بعض الأنظمة العربية والكثير من المؤسسات العربية الرسمية وغير الرسمية للهرولة باتجاه تطبيع العلاقات السياسية والأمنية والثقافية والرياضية والسياحية مع كيان الاحتلال ثمة ظاهرة لا بد من التوقف عندها ، والتي اعتقد أنها قد بدأت بالسيطرة على المسار المجتمعي العربي بمنظومة وعيه وصناعه مفاهيمه بشكل أو بآخر، حيث بات يتردد ترويج سياسي جديد على شكل منهج ليبرالي بعد أن تم التمظهر بفشل القوى الوطنية القومية العروبية وفصائل العمل الوطني الفلسطيني بكل أشكالها الكلاسيكية أو تم إفشالها وإفشال أطروحاتها وإخراجها من دائرة التأثير بشكل أو بآخر لدى المنشغلين بالشأن السياسي العام ، الأمر الذي بات يهدد أركان منظومة المفاهيم الوطنية بإطارها القومي العربي برمتها.

 

إن فلسفة التطبيع تقوم على أساس التسليم بمنطق الهزيمة والاستسلام لمنطق قوة العدو وفقا لشروطه ورغباته والتسليم بكل ما يتصل بالحقوق والحق والانصياع بالتالي لمعادلة الهزيمة وما تفرضها من شروط انهزامية لها الأثر الكبير على مستقبل الشعب بكل مكوناته وجعل العدو صاحب اليد العليا ، في حسابات المصالح وهو ما نشهده بالظرف الراهن في ظل موجة التطبيع وتنامي تيار ما يسمى بالواقعية السياسية العربية المستندة بالأساس على تقاطعات للحفاظ على مصالح النخب العربية الحاكمة وما تمثل وما بين مصالح دولة الاحتلال في المنطقة ، وقد انعكست هذه التقاطعات من خلال الاتفاقيات الموقعة من قبل بعض الأنظمة العربية والدولة العبرية البعيدة كل البعد عن مفهوم إحلال السلام الشرق اوسطي ...

 


ان فلسفه التطبيع تقوم على اساس هدم اركان المجتمع من داخله وذلك من خلال زرع الفتن وتقويض معتقداته وتاريخه التراثي المبني على الحقوق التاريخية والمصالح العربية ذاتها وحمايتها من استهداف الاخر بصرف النظر عن ماهية هذا الاخر، وعلى مختلف المستويات بهدف التشكيك بكل ما يتصل بالعقيدة العربية القومية ومندرجاتها وبالتالي هدمها واحلال عقائد أخرى مكانها لا تتصل بالتاريخ العربي القومي وتراكماته.


ولعل فعل التطبيع قد أخذ مداه الأساسي من خلال اتفاقية العبور نحو الساحة العربية من خلال اتفاقية أوسلو وملاحقاتها، وتطويعها وفقا لرغبات حكام تل ابيب وبالأساس منها التنسيق الأمني الذي جاء كنقطة تحول دراماتيكية لتجريف الفعل الوطني بكافة اشكاله، من هنا اخذ مفهوم التطبيع شكلا اخر ومختلف حيث التعاون والاندماج الكامل في منظومة المفاهيم والمدركات التي اثرت على مسار العملية السياسية برمتها، مما ساعد على الترويج لمفهوم الواقعية السياسية العربية بشكل عام والفلسطينية على وجه التحديد.

 

هذا الترويج الذي بات يعتمد على ما يسمى بالواقعية السياسية وضرورة النظر للأمور والمستجدات التفاعلية بالمنطقة بمنظار الواقعية والتعاطي معها والتسليم بنتائجها، وبالتالي التخلي على الخطاب السياسي المستند على الثوابت الوطنية القومية والحقوق التاريخية للشعب العربي الفلسطيني، حتى أن أنصار الواقعية الجدد باتت نظرتهم للوقائع السياسية تعتمد على المطروح إسرائيليا ودوليا من خلال البوابة الأمريكية وأية لغة أخرى من شأنها معارضة ومقاومة المد الأمريكي ومقاومة السياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، وتحديدا تجاه قضية كقضية القدس أو قضية اللاجئين توصف من قبل هؤلاء الواقعيين على أنها خطابات خشبية جامدة لا تغني ولا تسمن من جوع، مع العلم أن الخطاب الفلسطيني الراهن وبظرفيته الحالية والذي عبر ويعبر عن نفسه من خلال أطروحة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران بعاصمتها القدس الشرقية ، في اطار حل الدولتين ، إنما يعتبر قمة الواقعية الجديدة والتعاطي والشأن الدولي العام في ظل مستجدات دولية وإقليمية فرضت نفسها على مختلف صُناع القرار السياسي الفلسطيني على مدى العقدين الأخيرين، وهذا بتصوري ما يشكل الحد الأدنى من الخطاب الوطني والقومي، ودون ذلك يعتبر تفريطا وليس انسجاما والواقع الدولي والإقليمي.

 

إن أنصار الواقعية الجديدة يرون بكل أشكال المقاومات، وليست بالضرورة المسلحة او العنيفة لسياسات الاحتلال، خروجا عن نمطية هذه الواقعية وتخريب الرؤية السياسية التي يحاولون أن يتعاطون ونتاجاتها على الأرض، كأن يقال مثلا أن قضية كقضية القدس أكبر من أن نفرض فيها أية حقائق أو وقائع فلسطينية، وبالتالي من الضروري التعاطي والمطروح على أرض الواقع، وأن يتخلى أنصار التمسك بالثوابت عن ( اللغة الخشبية) تجاه قضية القدس، وأن الدعوة إلى الصمود وتعزيز أسباب الصمود العربي والوطني فيها في ظل ظرفية السلطة الفلسطينية وقيادتها والتحديات التي تفرض نفسها على هذه القيادة يعتبر تصعيدا خطابيا ضد هذه القيادة أو إحراج هكذا قيادة المتناقضة مع ذاتها وخطابها ، ( حيث تسلل الكثير من انصار أطروحة الواقعية السياسية لكينونتها واصبحت السمة الأساسية لشكل القيادة الفلسطينية التناقض والتخبط والذهاب نحو المجهول) ، مع العلم أن أسباب الصمود ليس بالضرورة أن تكون مادية فقط، مع أهمية الدعم المادي لهذا الصمود، ولبقاء فعل المؤسسات الوطنية فيها، بل أن الرؤية السياسية تجاه القدس وتحديد اللغة والمفردات المبدئية وتضمينها بالخطاب الفلسطيني الرسمي والمستند إلى خطط برامجية واضحة المعالم وقابلة للتطبيق وفق منهاج علمي وعملي بذات الوقت من شأنه أن يعزز الصمود العربي بالقدس، وعلى الأقل أن يتصدى للسياسات الإسرائيلية أو أن يعطل مسارات فعلها وتخريب وتغيير ملامحها العربية وهويتها الحضارية، وهكذا خطاب عادة ما يتم وصفه بلغة هؤلاء الواقعيين بالخشبي وغير المنطقي في ظل ظرفية السلطة.

 

وفي ظل تصارع لغة الواقعية الجديدة وأنصارها مع اللغة الوطنية العربية المستندة إلى الحق الوطني والعروبي التاريخي نجد هؤلاء الواقعيين يحاولون الرهان على الأطروحة الدولية عبر بوابة الإمبراطورية الأمريكية وسياساتها في المنطقة ليجدوا ومن خلال هوامش هذه السياسات بعضا من الفتات يقتاتون عليه لممارسة الكلام السياسي وفن التنظير الواقعي حول ضرورات المرحلة ومتطلباتها، وحضارية التعاطي السياسي وأخلاقيات العصر الأمريكي في إدارة الشأن الدبلوماسي على قاعدة مراعاة المصالح ومناطق النفوذ، وضرورة تقديم التنازلات المطلوبة حتى نأخذ مكاننا في نادي الليبراليين العرب الجدد المتفقين مع المحافظين الجدد في بلاد العم سام، وحتى نكون على تواصل مع عواصم ما يسمى بالاعتدال العربي.

 

وهذا النادي من أهم شروط عضويته أن يتم التخلي عن ما يسمونه “باللغة الخشبية” في القضايا الوطنية والقومية كقضية القدس وقضية اللاجئين، والأهم أن يتم نبذ المقاومة بكافة أشكالها وأنواعها من ضرب الحجر والاعتصام والتظاهر وحتى التعبير عن وجهة النظر، بمعنى آخر يجب أن نحاور الآخر في معادلة الصراع، وأن نقبل مبدأ الحوار والتحاور على كل ممارسة إسرائيلية، ولهم الحق أن يفعلوا ما يشاءون دون أن يكون لنا الحق بمجرد تعزيز أسباب الصمود والثبات.


من حق إدارة البيت الأبيض أن تعقد جلسات المشاورات والمباحثات مع وزراء الخارجية العرب ومديري المخابرات للدول المؤثرة في المعادلة الإقليمية لتعطيهم تعليماتها وأوامرها لكيفية تهيئة المسرح الإقليمي للفعل الأمريكي القادم، والمتواصل نحو وفي المنطقة، والمطلوب منا وحسب الواقعية التسليم بهكذا وقائع.


وفي سياق التعاطي السياسي الرسمي الإقليمي والمبرمج إلى حد ما أمريكيا على شكل صبغة دولية، ثمة ملاحظات لا بد من إبرازها أمام رواد الواقعية السياسية الجديدة في المنطقة ورواد التطبيع والترويج له ، ولعل أهم هذه الملاحظات تتلخص بالآتي:
إن ادارة البيت الأبيض لا ترى أن الوقت قد حان لحل قضايا ما يسمى بالمرحلة النهائية فيما يخص القضية الفلسطينية، والمقصود طبعا قضايا القدس واللاجئين وإقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة.


إشاعة جو سياسي ودبلوماسي عام في المنطقة من قبل البيت الأبيض والحكومة الإسرائيلية بالتعاون مع الواقعيين العرب والفلسطينيين الجدد باعتبار أن المنطقة غير مهيأة لإحلال ما يسمى بالسلام التسووي، وهذا ما يعبر عن الموقف الإسرائيلي تماما.


محاولة تثبيت وترسيخ مفهوم النزاع الحدودي على الصراع العربي الإسرائيلي، وهو على الأقل ما تحمله وتدلل عليه الأطروحات الأمريكية الإسرائيلية، وهذا يتجلى بشكل واضح في النظرة الإسرائيلية للعملية السلمية، والتي تدعو إلى إقامة دولة فلسطينية بحدود مؤقتة تتفاوض مع الجانب الإسرائيلي على القضايا المُختلف عليها، وهو ما يروج له أنصار الواقعية السياسية تحت شعار “إنجاز ما يمكن إنجازه، بمعنى أن المطلوب تقديم التنازلات من قبل الجانب العربي، والجانب العربي طبعا لا يبخل بتقديم هكذا تنازلات.


محاولة ترسيخ مفهوم محور دول الاعتدال العربي (السني الظاهر..) في مواجهة المد الشيعي..( الخطر الإيراني..) لخلق فزاعة سياسية جديدة أمام النظام العربي الرسمي خدمة للمصالح الأمريكية في المنطقة في مواجهة المد القومي العربي المستند إلى المقاومة والممانعة.


ثمة فشل سياسي أمريكي في المنطقة وثمة محاولات تجيير لمصلحة سياسات البيت الأبيض، وذلك عبر إدارة العلاقات العامة حول القضية الفلسطينية.


محاولة تغيير مفهوم الأمن القومي العربي، وتغيير بوصلته تجاه إيران، وتراجع الخطر الإسرائيلي على الأمن القومي العربي برمته.


ثمة محاولات لتدجين قوى الممانعة والرفض للسياسات الأمريكية، وبالتالي الإسرائيلية في المنطقة، وهو ما نراه ونلمسه في الظرف الراهن.


وبهذا الشكل أرى أن التعاطي الواقعي والقضايا المطروحة إنما يصب في خدمة دبلوماسية الفعل الأمريكي والإسرائيلي، والذي لا يتعدى في أحسن أحواله شأنا من شؤون العلاقات العامة يتم العمل على مساراته المختلفة ظرفيا وفقا للأجندة الإقليمية الأمريكية في المنطقة ومتطلباتها.