أســبــاب ظـاهـرة التـهجـيـر والـمـســؤولـيــــة الـوطـنـيـة

BGh5Q.jpg
حجم الخط

بقلم طلال عوكل

 

 


تضجّ شبكات التواصل الاجتماعي، ومواقع "السوشيال ميديا"، بتدخُّلات هائلة، تثير الكثير من القلق، وتبثّ الكثير من السُّموم ذات الأبعاد الاجتماعية، والسياسية والنفسية، وتنخر في عقول البسطاء في الناس.
الأطباء المزعومون، والخبراء الاجتماعيون والنفسيون المزعومون الذين يسعون وراء الشُّهرة، والمال، وبعض المتداخلين الذين ينتمون لأجهزة استخبارات من كلّ جنس، يوفّرون لأنفسهم غطاءات مزيّفة، يستخدمون هذه الوسائل للتجسُّس، والإسقاط والتجنيد.
مرّة تقرأ بأنّ تناول القهوة ضار، وأخرى بأنّها مفيدة، وكذا الحال بالنسبة لكثير من المستهلكات الأساسية للناس، ووصفات طبّية يدّعي أصحابها أنّها تعالج كلّ الأمراض وأصعبها.. ومتناقضات لا تخفى على أصحاب العقول السليمة، ولكنّها تمرُّ على الكثير من بُسطاء الناس.
إعلانات الهجرة، وما يُصاحبها من إعلانات، وإغراءات، تلعبُ بالتأكيد دوراً مهمّاً في توفير الدوافع للشباب الحائر، تزوّج روسية، أوكرانية، أو تشيكية، تحصل على امتيازات ورواتب لا تجدها حتى في الأحلام.
إغراءات بسهولة الحصول على "الفيزا" لكثير من الدول التي تصطاد أهل العلم والكفاءات، وفق معايير محدّدة، ولكن الواقع يشير إلى غير ذلك، خصوصاً بالنسبة للفلسطينيين. نعم أوروبا العجوز وفي ظلّ محدودية الإنجاب، والأعداد الكبيرة للمُسنّين والمُتقاعدين، تحتاج إلى تجديد، وضخّ المزيد من الدّماء والحيوية في الأجساد الاجتماعية الهزيلة واستثمار نتائج الحروب الدّامية التي تقف تلك الدول خلفها.
ظاهرة الهجرة، أو بالأصحّ التهجير القسري، ليست حصراً على الشعب الفلسطيني، فلقد أضحت ظاهرةً عالمية، خزّانها الأساسي الدول الإفريقية، ودول الشرق الأوسط، وللدول العربية نصيبٌ كبير منها.
إذا كانت هذه الظاهرة، لا تؤدّي إلى تغيير الأوطان، التي ترسّخت منذ مئات السّنين، فإنّ المسألة بالنسبة للفلسطينيين تتّخذ أبعاداً شديدة الخطورة.
الحروب تشكّل سبباً رئيسياً، وكذلك الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية النفسية، وهي كأسباب موجودة بالنسبة للشعب الفلسطيني، لكن المسألة مختلفة، أيضاً.
في فلسطين هناك احتلال استيطاني إجلائي وإحلالي، يسعى لشطب وجود الشعب الفلسطيني على أرضه، ومحو وسحق هويّته الوطنية ومصادرة أحلامه وحقوقه التاريخية والوطنية المشروعة.
الصراع في فلسطين يقوم على الأرض في الأساس، فإذا غاب أو غُيِّبَ عنها أهلها، فإنّها ستكون فريسةً للطرف الآخر المحتل، بخلاف الحالة في دول أخرى، فغياب بعض السوريين مثلاً على أهمية ذلك، لا يعني أنّ سورية ستشطب من الخارطة الجيوسياسية. وهكذا لمواطني الدول الأخرى.
ثمة فارق جوهري بين الهجرة الطوعية والتهجير القسري، حيث يمكن للمهاجر أن ينتقل في ظروف طبيعية بحثاً عن المال او العلم أو الالتحاق بالعائلة، أو أيّة أسباب أخرى، ولكن التهجير يتّخذ طابع التخطيط، واستخدام وسائل قاسية لإرغام الناس على مغادرة أوطانهم لتحقيق أغراض سياسية في إطار مصلحة الطرف الذي يُمارس الضغط.
عام 1948 أرغمت العصابات الصهيونية المدعومة من بريطانيا الانتدابية، أكثر من سبعمائة ألف فلسطيني على الهجرة، واستخدمت أساليب التخويف والإرهاب، وارتكاب المجازر، وسرقة الأرض وتدمير القرى والممتلكات.
ولم تتورع العصابات الصهيونية عن استخدام العنف والإرهاب لدفع اليهود في مناطق مختلفة من العالم ومن بينها بلدان عربية لإرغامهم على الهجرة إلى فلسطين في إطار مشروعها الاستعماري.
يصول ويجول الكثير من المتدخّلين والمتطفّلين ومُدّعي الوطنية والخبرة في تفسير أسباب هجرة الشباب من فلسطين ومن قطاع غزة على نحوٍ خاص، ويُجيّر بعض هؤلاء ازدياد هذه الظاهرة، لصالح أجندات فئوية، لها علاقة بالانقسام، وتداعياته.
إذ يمرُّ الكثير من هؤلاء الشباب الذين استقرُّوا في بلدان المهجر على عديد الأسباب التي تحمل الانقسام الفلسطيني، وإفرازاته، المسؤولية الأساسية، فإنّ هؤلاء مع الأسف، يتجاهلون وزن ودور الاحتلال الإسرائيلي.
نعم قطاع غزة، ينطوي على مُعانيات هائلة، من البطالة، والفقر والفقر المدقع، وانسداد الآفاق أمام الشباب، وطبيعة الظروف الاجتماعية، وربّما يعاني الكثير من الناس من الاكتئاب واليأس، ولكن من هو المسؤول عن وصول الأوضاع إلى المستوى الطارد للشباب والكفاءات؟
في ظلّ اشتداد الصراع مع الاحتلال ومخطّطاته وأدواته وإرهابه وعنصريته وفاشيته، لا يتوقّع أحدٌ عاقل، بأنّ الشعب الفلسطيني سيعيش في رفاهية وفي أوضاع طبيعية، فإذا كان منطق الصراع يُشير إلى أنّ الفلسطينيين يسعون لتحويل الاحتلال إلى جهنّم لا يعرف فيها المستوطن الرّاحة، فإنّ الإسرائيلي هو الآخر، يسعى لجعل فلسطين جهنمَ بالنسبة للفلسطينيين، وهذا من ديدن وآليات الصراع على الأرض.
إسرائيل منذ عام 2007، تُخضع قطاع غزّة لحصارٍ مشدد، وتُمارس على كلّ من فيه ضغوطاً هائلة عَبر العُدوانات المتكرّرة وجرائم الحرب والقتل بالجملة والمفرّق، وذلك في إطار إخراج القطاع من معادلة الصراع، والتخلُّص من أكثر من مليوني فلسطيني من دائرة حسابات التوازن الديمغرافي.
هذا يعني أنّ إسرائيل تتعامل مع القطاع ككيان معاد، وبيئة طاردة، للتخلُّص من القطاع الأهمّ وهو الشباب وأهل العلم والكفاءة والعقول، والقطاع الأكثر فاعلية في الصراع مع الاحتلال.
هذا هو السبب الأساسي والأهمّ الذي يُفسّر هجرة مئات الآلاف من الشباب، ورغبة كثيرين بمغادرة القطاع، حتى لو أدّى ذلك إلى ركوب مغامرة الموت، أو التيه، أو المعاناة.. سعياً وراء الوصول إلى حيث بإمكان الشباب أن يحظى بالأكل والنوم، من دون توفّر فرص حقيقية لتحقيق الذات، وبناء مستقبلٍ أفضل.
ثمة ثمن كبير مرئي وغير مرئي يرافق رحلة التهجير القسري، فهؤلاء يفتقدون إلى البيئة ودفء العائلة فوق ما يدفعونه من المال والعذاب.
في سابق الزمن كان موضوع الهجرة محلّ استنكار واتهامات، ومقاومة، ولكن لا أحد اليوم يملك المنطق لمواصلة هذه النظرة لمن سعوا ويسعون للهجرة.
نعم الانقسام السياسي، والتحريض، والاتهامات المتبادلة، وطبيعة قدرات وسياسات السلطات الحاكمة تلعب دوراً، ولكن حتى هذا السبب سيعود في أصله إلى الاحتلال.
لا يمكن إعفاء الأوضاع الفلسطينية والسلطات عن هذه المسؤولية، وحتى لو كان الاحتلال هو السبب، فإنّ المعالجة الجدّية الممكنة لهذه الظاهرة هي جزء أصيل من عمل المقاومة، ذلك أن صمود الفلسطيني على أرضه، يقف كمهمّة في أوّل سُلّم الأولويات، بالنسبة لكلّ مسؤول فلسطيني سواء كان في السلطة، أو في الفصائل.
ثمة ضرورة لتوعية الشباب وتعميق حسّ المسؤولية الوطنية لديهم، وإظهار مخاطر الاستجابة لعوامل التهجير، ولكن ذلك لا يكفي، ولا يُعفي من مسؤولية اتخاذ إجراءات عملية لتحسين ظروفهم.