أُطفئت الأنوار في قاعة مؤتمرات في جوهانسبرغ معلنة نهاية قمة مجموعة البريكس لتشتعل أنوار أخرى في قاعة مؤتمرات في نيودلهي مؤذنةً بافتتاح قمة مجموعة العشرين. لم نكد ننتهي من قراءة بيان البريكس إلا ووجدنا على مكاتبنا نسخة مبكرة من الإعلان المزمع إصداره عن قمة العشرين في العاصمة الهندية.
بين القمة والأخرى أيام قليلة ولكن حافلة بأكثر من مفاجأة مثيرة. هذا إلى جانب أن كل قمة من القمتين نجحت في إثارة الاهتمام العالمي ببنود في جدول أعمالها لم تخل من الطرافة والأهمية، نوقشت فكثرت الاستفسارات. أغلب البنود استهلك كما اتضح لنا وقتاً طويلاً في الإعداد، وبعضها ظهر أكثر ابتعاداً عن واقع الحال، وواحد منها على الأقل خرج أقرب ما يكون إلى حكاية افتراضية على نمط وإبداع ما أنتجته مؤخراً استوديوهات هوليوود تحت عنوان «باربي» وحققت من ورائه أرباحاً مذهلة وغير مسبوقة في تاريخ السينما الأميركية.
• • •
عن صدى قمة البريكس نتحدث أولاً. فقد عم التفاؤل جميع أركان العالم النامي بين جهات تطمئن إلى أنها من الآن فصاعداً سوف تنهض بلادها باستقلال وبعيداً عن التدخل الخارجي. بالغ الكثيرون، وهي عادة من يتخلفون في النهضة. وصفوا البهجة، التي رافقت الاستعدادات والاتصالات الجارية لعقد قمة لمجموعة البريكس تقرر التوسع في العضوية لتشمل عدداً أكبر من الدول النامية، وصفوها بالثورة الناجحة ضد هيمنة الرجل الأبيض.
بدا منطقياً وتاريخياً التحرك المتوازي في أفريقيا خلال فترة قصيرة لالتفاتين: التفاتة من جانب فصيل من العسكر في عاصمة دولة من دول الساحل في أفريقيا حين تحرك الفصيل ضد حاكم طال عهده يحكم في حماية مظلة الاستعمار الفرنسي، والتفاتة من مجموعة صغيرة أو كبيرة في دولة أخرى قررت الخروج إلى الشارع لتعترض على رئيس ورث الاستبداد عن أبيه. هذا الأب حصل على الاستقلال من فرنسا بشرط أن يكون أول قرار يتخذه دعوة قوات فرنسا للإقامة الدائمة في بلاده. مئات المتظاهرين اشتغلوا طول حياتهم في استخراج معادن لحساب شركات أوروبية، لم يتقاضوا لقاء عملهم إلا النزر اليسير وحصلت الشركات والدول الاستعمارية المنتمية لها الكثير والوفير. ليلتها بدت أفريقيا للغرباء قارة بائسة قررت أخيراً أن تتحرك، وتحركت.
• • •
توقعنا، أقصد توقع أفراد في مجموعات تراقب، أن تتدخل فرنسا عسكرياً بالسرعة الممكنة. توقع آخرون أن تدفع فرنسا أو تحث أو تجبر الجماعات الجهادية المنتشرة بإحكام في هذه الدول لتثير فوضى وتهاجم العواصم فيستحق إعلامياً للقوات الفرنسية التدخل لاستعادة السيطرة لموظفيها وشركاتها. توقع بعض آخر أن ترفض أميركا هذا التوجه الفرنسي الذي تراه جاء متأخراً، وبخاصة بعد أن سربت أنها تضغط من أكثر من عامين على فرنسا لتغيير سياساتها في الدول الخاضعة لها عسكريا وسياسيا واقتصادياً، لأن هذه السياسات حسب ما ورد في التسريبات أصبحت تمثل ضرراً مباشراً على مصالح أميركا واستراتيجياتها الأمنية في أفريقيا وبخاصة الساحل واستراتيجيتها في الشرق الأوسط وبخاصة في لبنان. نذكر أنه كان لدى واشنطن من تجاربها مع الاستعمار البريطاني ما دفع رئيس البيت الأبيض بعد حرب السويس إلى اتخاذ قراره الشهير بإحالة الاستعمار البريطاني إلى الاستيداع وإجبار باريس على الخروج من الجزائر. حدث هذا عندما شعر بأن الاتحاد السوفييتي يتقدم نفوذاً وينشئ مصالح في العالم العربي مهدداً نفوذ ومصالح أميركا.
• • •
لم يكن مفاجئاً لنا قرار أميركا شن حملة دبلوماسية على دول إفريقية مارست التقارب مع روسيا والصين، الأولى حين أقبلت دول بعينها غنية بالثروات أو بالموقع على التعاقد مع مرتزقة مجموعة فاغنر الروسية، والثانية حين أقدمت هذه الدول نفسها أو مع دول إفريقية أخرى على عقد صفقات لمد خطوط وبناء منشآت بنية تحتية تمولها قروض صينية. سبق الحملة الدبلوماسية حملة إعلامية أميركية تهاجم برامج الصين القائمة على مبادرة الطريق والحزام. اتهمت الحملة الصين بأنها تغرق الدول الأفريقية والآسيوية بالقروض واثقة من عدم قدرتها على سداد فوائدها وأقساطها، فينتهى الأمر بانتقال مسؤولية تشغيل أو ملكية هذه المشروعات إليها. لم تفلح الحملة الأميركية واستمرت العلاقة الصينية بأفريقيا تتوطد على حساب الغرب. فجأة، أو للمرة الثانية خلال مائة وخمسين عاما تهرع الدول الكبرى للدخول في سباق وحشي على موارد الثروة الأفريقية. من استقر منها في شكل استعمار مقيم تحت شعار عنصري بغيض وكاذب، شعار «رسالة الرجل الأبيض» أو شعار آخر لا يقل عنصرية وهو «عبء الرجل الأبيض»، لم يهتم بنشر التعليم أو الاندماج الوطني بل على العكس عمق أسباب النزاعات القبلية واستغلها لصالحه.
• • •
تابعنا جهود إسرائيل وضغوطها الرامية إلى دفع الدول العربية التي لم تقم بعد علاقات معها، وبخاصة الخليجية، لإقامتها. لم يقصر الرئيس بايدن في الاستجابة لطلب إسرائيل وضغوطها داخل الكونغرس وخارجه. حاول بالفعل وواجهته عقبات وبخاصة في مرحلة هامة جداً بالنسبة لغاية تحقيق هدف الفوز بولاية ثانية في الانتخابات المقبلة. تفتق الذهن عن فكرة مثيرة. تقرر القفز فوق مختلف العقبات بمشروع مبتكر. خلاصة المشروع تقوم «بهارات»، أقصد الهند بعد تغيير اسمها على الأوراق الرسمية لهذا المؤتمر، بوضع إمكاناتها التكنولوجية والسياسية في خدمة فكرة تقضي بمد ممر اقتصادي ينطلق من الهند ويعبر المحيط إلى المملكة السعودية في طريقه إلى إسرائيل ومنتهياً في أوروبا. الممر يتسع لخطوط سكك حديدية فائقة السرعة وخطوط ملاحة وأنابيب تنقل الطاقة وبخاصة الهيدروجينية وكابلات لنقل المعلومات. هذا «المشروع ــ الممر» يشبه، من على البعد، مبادرة الطريق والحزام ولكن لأهداف أكبر وأوسع، أولها وأهمها أنه يحل العقد التي وقفت عقبة في طريق دمج إسرائيل بحكومتها المتطرفة والعنصرية، مع الدول العربية في مشروع شرق أوسطي تتبناه قمة العشرين. في الوقت نفسه تكون الهند بحكومتها المتهمة والمدانة بالاتهامات نفسها المدانة بها حكومة إسرائيل، مثل العنصرية وتشويه المبادئ الديموقراطية التي أهلتها أصلاً لمكانة متقدمة لدى دول الغرب، قد نجحت بفضل قيادتها الناجحة لقمة من هذا النوع أن تفرض نفسها وسياستها «غير المنحازة» على الغرب والشرق والجنوب في وقت واحد. براعة في الأداء الدبلوماسي، أم خيار استراتيجي لتحقيق فوز جيوسياسي على الصين التي توجست شراً فلم يحضر رئيسها، أم انتهازية سياسية فائقة ومن شواهدها المحلية الاحتفال مع أعضاء المؤتمر بذكرى المهاتما غاندي، الرجل الذي مات على يد شاب متطرف كان عضواً في أحد تنظيمات حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم الآن في الهند والذي ينتمى إليه وعاش يروج له نارندرا مودي الرئيس الحالي للحكومة الهندية ومضيف قمة العشرين؟
• • •
أتصور أنه وعلى ضوء ما خرجت به القمتان وما توافقت عليه سراً أو اختلفت الدول المشاركة دون الإعلان أو التصريح عما توافقت عليه واختلفت، يتعين على بقية دول الشرق الأوسط إعادة النظر في مشروعات تنمية وإنشاءات وتحولات رقمية نفذت أو جارٍ تشييدها. من هذه المشروعات مد طرق للنقل وتطوير الموانئ وبخاصة الواقعة على خطوط مبادرة الحزام والطريق مثل الموانئ الإيطالية واليونانية بخاصة، منها أيضا المشروعات ذات العلاقة بقناة السويس والموانئ المصرية والإسرائيلية وطرق الإمداد المقامة لخدمتها.
• • •
لم يبالغ أصحاب مشروع «الممر العظيم» عندما تنبؤوا بشرق أوسط مختلف في كلياته وفى تفاصيله إذا قدر لهذا المشروع أن ينفذ كاملاً.