لعل الموضوع الذي سنتحدث عنه في هذا التقرير هو من أهم المواضيع التي تتعلق بكل مواطن في قطاع غزّة على وجه الخصوص، لِما لأوضاعهم من خصوصية كبيرة تُساهم في تفاقم حجم المشكلة واستمرارها لمدة طويلة، فالواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي السيء ساهم في جعل العديد من أفراد المجتمع يُعانون من نوبات الاكتئاب التي تختلف من شخص إلى آخر على حسب حجم المشاكل التي مر بها، أو قدرته النفسية والجسمانية على تقبل المصائب والمشاكل والضغوط في حياته.
فمن منا لم يشعر بأنّه مخنوق ويُريد الانعزال والابتعاد عن كل المحيطين؟، ومن منا لم تنال منه المشاكل الاقتصادية وقلة فرص العمل وانعدام أبسط مقومات الحياة في غزّة؟.
في هذا التقرير رصدنا بعض حالات المواطنين النفسية والاجتماعية وسألنا عن لحظات التفكير السوداوية التي تُلازم البعض وكانت كالتالي:
"طريق طويل انتهى بالاكتئاب"
"سحر" ابنة الثلاثة والثلاثين عاماً تعمل مُعلمة في إحدى رياض الأطفال، تقول عن تجربتها السيئة مع مرض الاكتئاب: "لا أعرف من أين أبدأ، لكِن كل ما أستطيع قوله هو أنني عدت إلى الحياة من جديد بعد أنّ كان كل تفكيري يصب حول الموت والانتحار والانعزال عن الجميع، وكنت أشعر طِوال الوقت بصداع شديد يجعلني أتناول العقاقير المسكنة للتخفيف من الألم، كنت حرفياً مثل الشبح، لقد نزل وزني من 66 كيلو حتى وصل لـ50 كيلو في شهر واحد وذلك نتيجة عدم تقبلي للأكل وكنت دائمة النوم والانعزال".
وعن السبب الذي دفع سحر لتصل لمثل هذه الحالة، أجابت: "لقد توفيت أمي وأنا بعمر الـ20 عاماً وتركت لي 3 أخوة أصغر مني في رقبتي، كنت كأمهم يعتمدون عليَّ كل الاعتماد ،وكبروا أمام عيني حتى أنّه طوال تلك الفترة كان يتقدم لي العديد من الشبان لكِني رفضتهم لإيماني الكبير أنني لم أؤدي الأمانة التي ائتمنتني عليها والدتي، وفي تلك المدة تزوج أبي لكي يجعل زوجته تعتني بي وبأخوتي ولكي لا يوقف نصيبي بالزواج، لكِنها كانت تُظهر له أنّها تُحبنا وترعانا وحينما يغيب عن المنزل تبدأ في جعل أخوتي الصغار خادمين لها وتُهددهم أنّه إذا أخبروا والدي ستقلب حياتهم إلى سواد، وخصوصاً أنَّ والدي فعلاً يُحبها ولا يصدق أيّ شيء بالدنيا سواها، لذلك سكتنا ولم نقل شيئاً، فرفضت الزواج رفضاً كاملاً حتى لا أترك إخوتي فريسة لزوجة أب لا ترحم، ومن العوامل التي ساهمت في زيادة نوبات الاكتئاب أنَّ أخي الذي يصغرني بخمسة أعوام هاجر رُغماً عنا ودون وداع لأنّه كان يعلم جيداً أنّنا لن نسمح له بذلك، وأبي كتب البيت الذي يأويني أنا وأخوتي باسم زوجته، وبعد سنتين تقريباً توفى والدي وطردتنا زوجته وأخوها من منزل والدي بحجة أنّه منزلها لوحدها، ومن هنا بدأت المسؤولية تتضاعف، أختين أصبحتا بعمر الـ17 عاماً والأخرى 15 عاماً ولا أحد سواي يرعاهما، فقمت بالعمل في أماكن كثيرة بحوالي 100 دولار تقريباً شهرياً، أصبحت الديون تتراكم عليَّ فأنا أعيش في بيت بالإيجار ولدي أختين تتعلمان وأنا لم أكمل دراستي الجامعية منذ أنّ توفت أمي، فدخلت بمرحلة اكتئاب حاد انعزلت وحاولت الانتحار مراراً، إلا أنَّ خالي لم يتركني هو وابنته ووقفوا بجانبي وخضعت لجلسات من العلاج النفسي والعصبي وتناولت الأدوية التي تُخفف من حدة الاكتئاب حتى تعافيت الحمد لله، وكبرت أختاي وتزوجتا قبل عام وعامين وأنا اعمل في روضة لكي أشغل وقتي".
"مش قادرين نعيش"
"سعيد" يقول: "هو شو في البلد بفرح أو بخلينا نضحك أو ننام مرتاحين، الديون علينا من كل اتجاه، والي بوجع أكتر إنه وصلنا عمر الـ37 سنة ولحتي الآن مش قادرين نعيش ولا نتوظف ولا نتزوج، وكل تفكيرنا في الهجرة حتى لو بدنا نموت برا، ماهي هان موتة وبرة موتة مش فارقة".
وأضاف: "الاكتئاب أقل مرض بيعيش معنا وبنعيشه، احنا صار معنا الاكتئاب والقلب والضغط والسكر شو ضل، البلد والمسؤولين قضوا على أحلامنا، إنّ شاء الله يشبعوا فيها ويصحوا يوم ما يلاقوا شعب يحكموه".
"جميعنا نحتاج لجسات علاج نفسي"
"رائدة وشاح"، تقول: "أسباب الاكتئاب كثيرة أهمها انعدام سبل الحياة في غزّة، البطالة المتفشية والمشاكل الاجتماعية وعدم مقدرة الشباب على الزواج، جميعها أسباب تُساهم في ظهور الاكتئاب، وطبعاً قدرة التحمل هي التي تُساهم في زيادة أو التعافي من المرض عند مريض الاكتئاب، فمثلاً البنية الجسدية تختلف من شخص لآخر بعضهم جسده يتجاوب مع جلسات العلاج والأدوية التي يتناولها بالإضافة لرغبته في التخلص من الاكتئاب وعلى النقيض تماماً ممن يرمي بنفسه للتهلكة ولا يُريد أنّ يخرج من دائرة الاكتئاب، فيبحث عن وسائل وطرق للتخلص من حياته وهناك قصص حدثت في المجتمع لشباب أنهوا حياتهم في لحظة، نتيجة إصابتهم بالاكتئاب الحاد الناتج عن ضغط نفسي واجتماعي مروا به، بالمختصر جميعنا في غزّة نحتاج لجلسات علاج نفسي، فنحن مكتئبين لحدٍ كبير".
مختص يوضح
وحول هذا الموضوع وأسبابه وأكثر الأشخاص عرضةً للإصابة به، وأهم طرق الوقاية والعلاج، يوضح الطبيب الأردني محمد مهدي، أستاذ الطب النفسي، أنَّ الأشخاص الذين عاشوا تجارب سلبية "البطالة، فقدان شخص عزيز، الأحداث الصادمة، والذين يتعرضون للكثير من الحروب والتقييد كالمواطنين في غزّة" يُعدون الأشد تعرضاً للإصابة بالاكتئاب، كما يُمكن أنّ يؤدي الاكتئاب بدوره إلى مزيد من التوتر واختلال الأداء وأنّ يؤدي إلى تدهور أوضاع الحياة للشخص المصاب وإلى تفاقم الاكتئاب نفسه.
أما عن التعريف الصحيح للاكتئاب، يقول مهدي، في حديثه لمراسلة وكالة "خبر": "الاكتئاب هو اضطراب المزاج أو الشعور الذي يجعل الشخص حزيناً طوال الوقت، بالإضافة لقلة التركيز وفقدان الشغف والاهتمام بالأمور الحياتية المعتادة، وقد يكون مصحوبًا بالشعور بالذنب، وعدم الأهمية، ونقص تقدير الذات، ويؤثر المرض في المشاعر، والتفكير، والتصرفات؛ مما يسبب كثيرًا من المشكلات العاطفية والجسدية، والتي بدورها تؤثر في أداء الأنشطة اليومية، وقد يُسبب الشعور باليأس من الحياة، والتفكير في الانتحار، وربما الإقدام عليه في الحالات المتقدمة".
أنواع الاكتئاب
وبحسب مهدي، فإنَّ للاكتئاب عدة أصناف يختلف كل واحد عن الآخر نتيجة للسبب والعوامل، ومنها وأهمها الاكتئاب الموسمي: وهو من اسمه يختص بموسم معين في السنة دون غيره من الفصول مثلاً يُصاب البعض بالاكتئاب في فصل الخريف أو الشتاء حيث تقل فيه أشعة الشمس، ويزول غالباً بحلول فصل الربيع، ويكون مصحوباً بالعزلة الاجتماعية، وكثرة النوم، وزيادة الوزن.
أما النوع الثاني وهو الاكتئاب الذهاني حيث يُصاب فيه الشخص باكتئاب شديد، بالإضافة إلى نوع آخر من الاضطرابات العقلية، مثل: الهلوسات، والأوهام وتكون أعراضه مرتبطة بأوهام كئيبة، مثل: هلوسات الفقر، والمرض، والمشكلات الاجتماعية المستعصية، أما النوع الثالث فهو اكتئاب ما بعد الولادة حيث يُعد أشد خطورة من الكآبة النفاسية التي تُصيب أغلب النساء لمدة أسبوعين بعد الولادة، والمرأة المصابة باكتئاب ما بعد الولادة تواجه اكتئابًا شديدًا في أثناء فترة الحمل وبعد الولادة، ومن أعراضه: الحزن الشديد، والقلق، والإجهاد، مما يؤثر في أنشطتها اليومية، وعنايتها بنفسها وطفلها، مُشيراً إلى أنّه يمكن أنّ يتعرّض أيّ شخص للاكتئاب، ويشتد تعرّض الأشخاص الذين عانوا من سوء المعاملة أو الخسائر الفادحة أو موت قريب وعزيز وغيرها من المواقف الصعبة للإصابة بالاكتئاب.
إحصائية متغيرة
ويذكر مهدي، أنَّ هناك إحصائية لمنظمة الصحة العالمية هي في تغير دائم تُشير إلى أنَّ نحو 3,8٪ من السكان يُعانون من الاكتئاب، بما في ذلك 5٪ من البالغين (4٪ من الرجال و6٪ من النساء)، و5,7٪ من البالغين الذين تزيد أعمارهم على 60 عاماً، ويُعاني نحو 280 مليون شخص في العالم من الاكتئاب، ويزيد شيوع الاكتئاب بين النساء مقارنةً بالرجال بنسبة 50% تقريباً.
الأعراض والأنماط
ولفت إلى أنَّ المكتئب يُعاني خلال نوبة الاكتئاب من تكدّر المزاج "الشعور بالحزن وسرعة الغضب والفراغ الطويل" وقد يشعر بفقدان الاستمتاع أو الاهتمام بالأنشطة، وتختلف نوبة الاكتئاب عن تقلبات المزاج المعتادة وتستمر معظم اليوم، وتحدث كل يوم تقريباً، لمدة أسبوعين على الأقل وغيرها من الأعراض يتم تشخيصها حسب كل حالة وما مرت به.
وختم مهدي حديثه للذين يشعرون بأنَّ حياتهم سيئة ومحطمة، فيقول: "كل من يشعر بأيّ أعراض أو تفكير سلبي عليه أنّ يتحدث مع قريب له يثق به ويشعر بالراحة بالحديث معه، أو أنّ يتوجه لأقرب طبيب صحة نفسية ويُطلعه على ما يشعر به وأنّ لا يخجل من المصارحة، فربما هو على أعتاب اكتئاب في مرحلته الأولى والذي يُمكن معالجته سريعاً بجلسات التفريغ النفسي والأدوية المناسبة، وأنّ لا يستهين بهذا المرض، لافتاً إلى أنَّ المرض النفسي أخطر بكثير من المرض العضوي، وأحياناً يدفع بصاحبه للانتحار في مراحله المتقدمة.