هل تتحوّل إسرائيل إلى «دولة الفُرص الضائعة»؟

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

 

على الأقل منذ «مبادرة السلام العربية» فإن الجواب هو بالتأكيد: نعم.
إذ لا يمكن اعتبار «اتفاقيات كامب ديفيد» بين مصر وإسرائيل فرصة حقيقية طالما أن إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة، أو من أمامها وجانبها كانت قبل كل شيء تهدف إلى تحييد الدور المصري في الإقليم، وإخراج مصر من دائرة الصراع المباشر ضد إسرائيل، وهي الدولة الأكبر والأهم والأقوى في عموم الإقليم إذا استثنينا نسبياً وجزئياً التفوّق العسكري الإسرائيلي عليها.
ويُجمِع الخبراء، اليوم، أن التفوّق العسكري الإسرائيلي على مصر بات محصوراً في مجال القوات الجوّية والدفاع الجوّي، وقد تقلّص، الآن، كثيراً عمّا كان عليه في فترة التوقيع على تلك الاتفاقيات، كما أن مصر، اليوم، تتفوّق على إسرائيل في القدرات البرّية والبحرية، أو لم يعد لإسرائيل أي ميزات استراتيجية من التفوّق في هذين السلاحين.
ومقولة إن «كامب ديفيد» قد أخرج مصر كلياً من دائرة الصراع، أو من دائرة الصراع المباشر لم تعد دقيقة وتحتاج إلى مراجعة.
وتبيّن، الآن، أن «تحييد» مصر، أو إخراجها من دائرة الصراع مسألة أكلَ عليها الدهر وشرب في ضوء الحقائق والوقائع التالية:
صحيح أنّ مصر، وخصوصاً في ضوء ردة الفعل العربية والفلسطينية على «كامب ديفيد» رفعت يدها من «التدخُّل» مباشرة في الضغط على إسرائيل، إلا أن الصحيح، أيضاً، أن إسرائيل لا تملك أي ضمانات حقيقية بألا تتبدّل الظروف الداخلية في مصر، وقد تتبدّل أكثر فأكثر عند درجة معينة من تفاقم الصراع في الإقليم، ومن نجاح المشروعات التنموية الاستراتيجية في مصر، ومن التغيّرات الهائلة التي يشهدها العالم في توازناته الدولية.
اقصد أن السلام بقي في حدود مقلصة وباردة وأنا أرى أن وصفه الحقيقي هو سلام جار ليس أكثر، والأمر يتعلّق هنا بالمؤسسات الرسمية، لأن حال إسرائيل مع الشعب المصري في غاية التردي والسوء، والشعب المصري إن كان لديه إجماع بعد الإجماع على حماية مصر فهو الإجماع على رفض «التطبيع»، وعزل «السلام» كلياً عن «التطبيع».
لا يختلف الأمر جوهرياً بالنسبة للأردن، و»السلام» معها هو سلام بارد، وجار، بمعنى ليس له أي طابع ثابت ومكرّس أو استراتيجي، وهو مرهون بعوامل الصراع في الإقليم، وبتوازنات القوى الحزبية الداخلية في إسرائيل، وحال إسرائيل مع الشعب الأردني لا يختلف عن حالها مع الشعب المصري، بل هناك من يرى أنه أكثر سوءاً.
وإذا أضفنا إلى العاملين، المصري والأردني العامل الفلسطيني، فإن الأمور تبدو هنا أكثر صعوبةً وتعقيداً، ولكنها تحمل عناصر «قوّة» لإسرائيل من الخطأ تجاهلها، أو التقليل من شأنها.
صحيح أن «اتفاقيات أوسلو» قد فشلت وأُفشِلَت، وصحيح أنّ إسرائيل تتحمّل مسؤولية كبيرة عن هذا الفشل والإفشال، لكنّ الصحيح، أيضاً، هو أن العامل الذاتي الفلسطيني قد لعب دوراً تكاملياً في الفشل والإفشال على حدّ سواء، وكان لسوء الأداء والإدارة، والعشوائية السياسية، وكذلك الاستجابة للمخططات الإسرائيلية سواء في «انقلاب غزة» و»الانقسام»، أو في سياسات الارتهان والمراهنة على الأميركيين ومبادراتهم وتحذيراتهم لنا، ما أوقعنا في مطبّات الدفاع عن سلطات ليس لها سلطات، والتنسيق مع الاحتلال «للمحافظة» عليها، والاحتراب الداخلي، عسكرياً ثمّ سياسياً لتبرير الاحتفاظ بها، وبما وصل إلى تهديد وحدة التمثيل السياسي، والتضحية إلى حدّ كبير بمنظمة التحرير الفلسطينية، التي تجسّد هذه الوحدة، وتعويم البرنامج الوطني، وفكفكة الأواصر والصلات المجتمعية، وتحويل الحالة الوطنية كلها والذهاب بها إلى ميدان الاستقطاب السياسي الذي هو الوصفة المضمونة لشلّ الحالة الوطنية، وتعطيل كل ديناميات تطوّرها.
وخلاصة القول، إن إسرائيل حصلت على مكاسب كبيرة، وظنّت أنها قد فرضت شروطها، وأن «السلام» بمفهومها ــ وهو سلام منزوع التنازلات للشعب الفلسطيني لجهة حقوقه الوطنية ــ سيتم مع كامل الإقليم بفرض الوقائع، وبالاستفراد الكامل بالشعب الفلسطيني.
تعزّزت هذه «القناعات» لدى إسرائيل، وتماهت معظم الأطياف الصهيونية مع هذه القناعات، مع احتلال العراق، ثم تدمير مقوّمات سورية، وليبيا، ودول عربية أخرى، وأصبحت هذه القناعات التي هي جزء عضوي من الأيديولوجية السياسية للمشروع الصهيوني، بمثابة «يقين» سياسي يعكس «رغبة» شعبية تنحدر تباعاً نحو التطرّف والعنصرية، وصولاً إلى الفاشية السافرة مع دخول المجتمعات العربية في طور خطير من الطائفية والمذهبية، والمناطقية والجهوية والعشائرية القبلية، ومع انحدار منسوب الهوية الوطنية الجامعة لصالح هذه الانتماءات التي تعمل على الضدّ المباشر للانتماء الوطني والقومي كله.
وتحوّل «اليقين» الإسرائيلي إلى ما يشبه المُسلّمات السياسية والثقافية من أن العالم العربي سيسير في طريق «السلام» الإسرائيلي مع «نشوة» «الاتفاقيات الإبراهيمية الجديدة»، وأصبح الحديث عن السلام الحقيقي درباً من دروب «الجنون» والتطرُّف واللاواقعية «السّاذجة» في عُرفها.
لم ترَ إسرائيل ولا لمرة واحدة أن ثمة فرصة للسلام أبداً، وقامت عامدةً متعمّدة بإفشال «اتفاقيات أوسلو»، ولم تتوقّف عن التآمر على مصر والأردن من تحت الطاولة، وفوقها أحياناً، حتى هدّد أفيغدور ليبرمان بتدمير السدّ العالي، والحديث الصفيق عن الأردن كوطن بديل، والقيام بكل ما هو ممكن لضرب الدور التجاري لقناة السويس، والمشاركة في تشجيع أثيوبيا على المُضي قُدماً في بناء «سد النهضة»، وفي انفصال الجنوب السوداني، وفي تدمير العراق، ومواصلة الحرب على سورية ولبنان، بل والمساهمة النشطة في تدمير اقتصاده ــ وهذه المسألة بالذات بدأت تتكشّف حولها وقائع جديدة غاية في الخطورة على هذا الصعيد ــ وشنّت حروباً مدمّرة على الضفة الغربية، وعدة حروب على قطاع غزة، وهي تواصل ذات النهج، وذات العقلية، بل تزداد عدوانية وغطرسة إلى أن وصلت إلى اعتبار الأردن نفسه جزءاً من «أرض إسرائيل الكبرى». ناهيكم عن طموحاتها بهدم المسجد الأقصى وتهديد المقدّسات المسيحية.
وحتى عندما طرحت «مبادرة السلام العربية» كان ردّ أريئيل شارون عليها هو اجتياح الضفة، وتدمير مقوّمات السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة والقطاع، ولم تُعِر أي بال لما تضمّنته «المبادرة» من فرصة تاريخية تؤمّن لها العيش المشترك في ظروف طبيعية مع عالم عربي وإسلامي بكامله.
كل ما تفعله إسرائيل منذ قيامها هو العدوان والتدمير والقتل، وكل سياساتها تقوم على الإنكار والتنكُّر، وليس لديها كبديل للعدوان والتوسُّع سوى المزيد من العُدوان، والمزيد من التوسُّع، والمزيد من صفاقة التطرّف والعنصرية.
والمضحك المبكي هو أن إسرائيل لم «تكتشف» أنّها تعيش على أوهام مُنسلّة من أوهام أكبر منها، وعلى مراهنات لا يمكن أن يكون لها أي طابع مستقر وثابت، وعلى معتقدات ليس لها أي فرصة للبقاء، وليس هناك من قوّة قادرة على حماية هذه المعتقدات أو ترجمتها على أرض الواقع، لأن مثل هذه الترجمة بالذات ليست سوى الحبل الذي ستخنق نفسها به، والمزيد من العنصرية لن يحلّ لها أي معضلة، بل إنه بات يُدخِلها في متاهات لم تعد تعرف كيفية الخروج منها.
أضاعت إسرائيل فرصاً لا عدّ لها، وهي تستحقّ أن تُنعَت بـ»دولة الفرص الضائعة»، ولم يعد ممكناً، الآن، سوى أن تتراجع، إذا أرادت أن تتقدّم حتى ولو لبعض، أو بضع خطوات، لأن كل تراجع له ثمن داخلي أكبر من أن تتمكّن من دفعه، وهي عالقة، الآن، في الشرَك الذي نصبته لنفسها عندما اعتقدت أن بإمكانها فرض شروطها للحلّ، وعندما اعتقدت أنها مُحصّنة ضدّ «الداعشية السياسية».
تغيّر الزمن، وبدأ زمان جديد، سيكون فيه دفع الثمن للسلام مع الشعب الفلسطيني هو الحلّ الوحيد أمامها، وهو أقلّ الخسائر أو ما زال، إذا ما قِيسَ بالثمن الذي ستدفعه حتماً إذا بقيت تعتقد بأنها قادرة على فرض شروطها.