أوهام الحداثة والتنظير الفلسفي الناقد

صورة-150x150.jpg
حجم الخط

بقلم د. كمال القصير

لا ينبغي أن نفرح كثيرا لسماع نقّاد الحداثة الغربية، وشراستهم في بيان عيوبها وفراغها الداخلي من أي روح إنسانية، مع أن كل ذلك صحيح. فعملية النقد لا تختلف كثيرا عن عملية تمجيد الحداثة الغربية، حيث انتشر كلا الرأيين في العالم الإسلامي. والوهم المشترك بين الطرفين هو اعتبارهما الحداثة الغربية، المحور الأساسي، لأي نقاش حول النهضة، سواء بالرفض أو القبول. فالحداثة الغربية مرتكز التحوّل في نظر داعميها، وهي عقبة في طريق التغيير يجب التخلص منها في نظر منتقديها. إن على الطرفين التوقف عن وضع نفسيهما في مقابل المنتجات الغربية، رفضا أو قبولا. ولا يلتفت منهما أحد، يمينا وشمالا، بحثا عن البدائل والحلول.
إن عملية التقدم في التاريخ تمضي من غير حاجة إلى قياس نفسك بالآخرين، اقتباسا منهم أو رفضا لهم. والقادة الكبار والموجات العظيمة للتغيير تنظر إلى ذاتها وموقعها فقط. ولا تعير اهتماما لما يفعله الآخرون، بل تتعالى عما لديهم أساسا.
ولم يلتفت الألمان بعد الحرب العالمية الثانية يمينا ويسارا لأي نقاش فلسفي تنظيري حول النموذج الذي ينبغي اعتماده. ولم يخض اليابانيون بعد الحرب العالمية في نقاشات فكرية حول ما يجب فعله. ولا الفيتنام ولا أكثر الدول تقدما. إنهم بكل بساطة قاموا بفعل أشياء من منطلق الإرادة، التي هي أهم من أي نقاش حداثي.

الحداثة مجرّد وهم

لا تختلف شخصية الحداثي العربي المتحمّس، عن شخصية الرافض لها من أبناء العالم الإسلامي والمنتمين لثقافته، سواء كانوا يعيشون داخل المنطقة أو في الغرب. فالجميع غير قادر على تصوّر أي تحول في المستقبل بعيدا عن ضرورة مناقشة مفهوم الحداثة. إننا نعيش أوهام الحداثة في المنطقة منذ أكثر من قرن. نعيش أوهامها فلسفيا وثقافيا، بكل ما تسبّبه من انقسامات فكرية وسياسية.
الحداثة وهم كبير طال السعي خلفه منذ زمن، وكلما استوعب المثقف العربي مستوى من الحداثة الغربية، لطمته موجة أخرى جديدة لما بعد الحداثة، فزاده البحر عطشا. وفي كل الحالات فإن المنطقة لا تنتج سوى ردود الأفعال، بالافتتان طورا والإنكار طورا آخر.
إن التنظير الفلسفي الناقد أو الداعم للحداثة، لن يغير في واقع المنطقة ووعي الإنسان شيئا. ذلك أن منطق الشعوب يمضي في اتجاه مختلف، بعيدا عن الأسس النظرية التي يتقنها المثقفون. إن كل ما كتبه أمثال طه عبد الرحمن وغيره في مشروع نقد الحداثة الغربية، أو ما قاله عبد الوهاب المسيري، ويعيده وائل حلاق حول فراغ الإنسان الحداثي الغربي، لا يصنع أي بديل ثقافي عملي، أو إطار فكري بديل لأبناء المنطقة، الذين تهدم السياسات الخاطئة أحلامهم.

تشكل الإرادة

نعم أتفق مع وائل حلاق في أن يومنا وما نقوم فيه من أعمال، ليس هو اليوم الإسلامي على حدّ تعبيره. فأغلب ما نمارسه من أنشطة ينتمي إلى الثقافة الغربية. المسمّيات التي نستخدمها، وطريقة العمل وتوقيته، وأنظمة السياسة والآراء الاقتصادية، والعادات الاجتماعية والأذواق الفنية، وأسلوب الحياة وطريقة اللباس، وأفكارنا حول الحريات والحقوق. لكن السؤال سيبقى هو: ما هو مضمون اليوم الإسلامي والعناصر التي ينبغي أن تؤثثه؟ وأرى أن وضع تصور حول اليوم الإسلامي، أفضل بكثير من وصف الوضع القائم.
إن إحدى المقدمات الأساسية في حركة الشعوب، هي تشكّل الإرادة لدى رجال السياسة، حتى من دون اعتبار للتفاصيل الفكرية والفلسفية. أما السياسي العربي الحالي فهو في حاجة إلى الاقتناع شعوريا قبل كل شيء، بضرورة المضي إلى الأمام.
لقد أضاعت النخب السياسة خاصية القيادة للمجتمعات، التي باتت ضحية حروب الأفكار الوهمية العديدة والمتناقضة.
إن المجتمعات العربية في حاجة إلى التخلّص من وحش الرغبات الفردية، التي باتت تزاحم الدّين وفوق الشريعة.
أما العلمنة فهي أكبر سلوك ماكر في تاريخ تعامل الإنسان مع الله في وعي المسلمين الحالي. بينما يفتقد الوعي الإسلامي منذ أكثر من قرن مبدأ الاختيار، ولا ينطلق أصحابه من ذاتية حرّة.
وأكبر مشكلة سبّبها الداعمون لوهم الحداثة، هو استعانتهم بالعقل، ليخلقوا في المجتمعات مشاعر مخالفة تماما لما تشعر به منذ زمن بعيد تجاه ماضيها وتراثها.
إن تحولاتنا لها علاقة بانكشافنا على الآخر. وقطيعتنا مع وعينا الديني والتاريخي والاجتماعي والشعوري بالغة التكلفة. أمّا أفكارنا فهي لا تتمتّع بالهيبة والجاذبية الكافية، للتأثير في وعي الأجيال الحالية. وكثير من ممارساتنا وأفكارنا محرومة من امتلاك تاريخ واضح. والماضي في غياب الوعي يصبح مجرّد عَزاء، لا مصدرا للإلهام. أمّا المؤرّخون فسيكتبون أن إنسان المنطقة العربية والإسلامية، لم يخرج حتى اللحظة من مختبر التجارب، التي أدخله فيها الحداثيون العرب. ولم يتمكن الرافضون للحداثة من إخراجه منها، بل يضيفون عليه نقاشاتهم التي لا تنتهي.
إن المثقفين الداعمين والرافضين للحداثة الغربية، سوف يجدون باستمرار صعوبات بالغة في فهم سلوك المجتمعات. وسوف يسعون جاهدين لقيادتهم بواسطة الفلسفات والأفكار، في حين أن المجتمعات تعشق النماذج وأنماط الحياة البسيطة. وربّما انطلقت شرارة التغيير لديها من سوق للخضار، تعرّض أحد الباعة فيه للاضطهاد من طرف السلطة. وكثير من التغييرات الكبيرة قد حدثت بسبب حوارات عادية بين العمّال في المصانع التي يشتغلون فيها، أو المقاهي التي يرتادونها.
لقد كان اقتحام سجن الباستيل رمزا من رموز الثورة الفرنسية. لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن الشخص الذي تمّ اختياره لقتل مدير ذلك السجن، لم يكن يخطر بباله يوما أنه سيكون في هذا الموقف النادر. فقد كان طبّاخا متنقّلا بين الشوارع، ولا يجد عملا في كثير من الأحيان. وكان وجوده في ذلك المكان بدافع الفضول فقط، لرؤية ما يحدث هناك. لكنه حين وافق على مهمة قتل مدير السجن، تحوّل في نظر نفسه والآخرين الذي اختاروه إلى رجل وطني ثوري. يساهم في إحدى عمليات التغيير الكبرى في التاريخ. إن قائدا جبّارا كان قبل أشهر فقط، مجرّد إنسان عادي جدّا.

ميزان الشعور

ميزان المشاعر يجعل الشعوب تقذف بنفسها في أتون المخاطر بحثا عن المجد التليد، دون اعتبار حتى للأيديولوجيات والأفكار. وأمثال جنكيز خان وتيمورلنك ونابليون والطيّارين الانتحاريين اليابانيين، لم تكن تقودهم سوى طموحاتهم وإرادتهم الهائلة. بينما تساعدهم الأفكار فقط في التخطيط لغزو العالم.
أمّا الثورة الفرنسية فلا ترجع فقط إلى الأفكار والفلسفات التي كُتبت في القرن السابع عشر. وكم كان عدد الذين اطّلعوا على مؤلفات ديكارت أو روسو من الفرنسيين، في زمن كان الكتاب فيه قليل الانتشار جدا؟ إن المفاهيم الفلسفية والقانونية نفسها لم تصمد، مثل الإخاء الذي تحوّل بعد الثورة، إلى موجات من مشاعر العنف الذي اجتاح الجميع. ومذابح ومشانق نصبها الثوار لبعضهم.
منطق المشاعر يحرّك الناس بانتظام كامل، وإن كان في الاتجاه الخاطئ. في حين يؤدي الزجّ بالمجتمعات في المنطق العقلي والفلسفي، إلى الفوضى في اختيارات الناس أثناء حركتها. وهذا ليس تقليلا من شأنه منطق الأفكار والعقل، ولكنه بيان لمراتب الأشياء. والأفكار والفلسفات التي قد تؤثر في شعب، قد لا تجد سبيلا للتأثير في شعوب مجاورة.
يعاني المسلمون إزاء تحديد حاجاتهم، إلى الحدّ الذي نعجز أحيانا عن معرفة ما الذي تحتاجه المجتمعات الإسلامية. إن ما يحتاجه الناس سوف يبقى أساسيا في تحديد حركتهم في المستقبل. وما تحتاجه المجتمعات من أشياء جديدة سيعجّل بظهور أفكار جديدة، تتناسب مع تلك الاحتياجات. والذي أسقط مدنيات عظيمة، هو شدّة العزم في شعوب ذات عقول صغيرة.
أجد أن من واجبي هنا مخالفة آراء مالك بن نبي الخاصة بقدرة الأفكار، ودورها في بناء الحضارة. فإن الشعوب لا تحتاج إلى الأفكار دائما لبناء الدول والمدنيات العظيمة، أكثر من حاجتها للإرادة والعزيمة والتنظيم.
وفي اعتقادي فقد غيّرت مشاعر الناس مجريات التاريخ، أكثر مما فعلته أي أفكار أخرى. إن أكثر مظاهر الحضارة من أنواع الفنون وصنوف الآداب والمعمار، والرغبات المتطرّفة للقادة الدينيين والسياسيين، قد ولّدتها المشاعر لا الأفكار المباشرة.
لقد عرف الإنسان منذ ظهوره المشاعر قبل العقل، الذي احتاج زمنا طويلا لكي يؤسس قواعده. وعندما تلتقي الجيوش لحظة المواجهة، فإن كلمات القادة تكون أقلّ تأثيرا من قرع الطبول، وموسيقى الحرب بين الصفوف. إنها تحفّز مشاعر الجنود الذين هم في ذلك الحين، في أمسّ الحاجة إلى نسيان كل ما سوف يقوله العقل.
وعندما يعزف أحدُهم أمامنا مقطعا أو لحنًا جميلا، فإنه يُذكّرنا بما لا تستطيع الكلمات أن تُذكّرنا به، عندما يتم نطقها مجرّدة. إننا سوف نتذكر مشاعر الحبّ لحظة سماع اللّحن الجميل، أكثر من تذكّرنا لقصصنا الخاصة في الماضي، عند سماعنا كلمة حب، التي تتكوّن من حرفين. وإذا كانت الكلمات والأفكار قد تُقنعنا، فإنها سوف تحتاج أن تقطع مسافة طويلة لكي تؤثر فينا. إن القائد السياسي والمفكر الذي يكسب مشاعر الناس، أنجح ممّن يحوز تقدير عقولهم.

كاتب مغربي