شكلت مدينة حلب الواقعة شمال سورية موقعاً جد استراتيجي لقوات المعارضة السورية التي سيطرت على الجزء الشرقي من هذه المدينة، في إطار سعيها للسيطرة على مواقع استراتيجية أخرى شمال وجنوبي ووسط سورية.
غير أن وجود تنظيم "داعش" الإرهابي على خريطة النزاع السوري، عقّد من فرص المعارضة للسيطرة على مناطق مهمة، خصوصاً وأن معادلة النزاع في سورية تعني أن الكل يحارب الكل، ضمن استراتيجية توسيع النفوذ الجغرافي والوجودي. تكمن أهمية مدينة حلب التي يجري فيها نزاع شرس ومستميت بين القوات الحكومية السورية وبعض أطراف المعارضة المعتدلة خلال مباحثات جنيف التي انطلقت في التاسع والعشرين من الشهر الماضي وجمدت بعد أسبوع على بدئها، نقول إن أهمية هذه المدينة تكمن في أنها تشكل امتداداً من ناحية الشمال الشرقي والغربي لتركيا.
هدف النظام السوري من حشد قواته والسعي إلى تحقيق انتصار في واقعة حلب يأتي بسبب عاملين، الأول أن حلب تعتبر أحد أهم حصون المعارضة المعتدلة، وأن السيطرة على مناطق تعود لها سيعني الكثير للنظام السوري وسيرفع بالتأكيد من المعنويات القتالية لجيشه.
أضف إلى ذلك أن النظام السوري يرغب بالاستفادة الكاملة من التدخل العسكري الروسي، لذلك هو يوظف هذا التدخل الجوي في الأساس لتكثيف الحصار على مدينة حلب، والاستعجال في تحقيق انتصار سريع يسبق أي مرحلة تفاوضية لاحقة. يعزز هذا الرأي موقفين صدرا عن الحكومتين الروسية والسورية، إذ قالت الأولى إنها مهتمة لفكرة استكمال المسار السياسي الذي عُلّق في جنيف، وأنها تقترح عقد جولة من المباحثات بين طرفي النزاع السوري بعد التوافق مع الولايات المتحدة حول قضايا ما تزال عالقة.
روسيا بطبيعة الحال تريد اللعب على حبل الوقت حتى تستعجل هي والقوات الحكومية السورية تأمين مدينة حلب والسيطرة عليها بالكامل، حينذاك سيكون سهلاً على موسكو أن توافق على بعض الشروط الأميركية والغربية لاستمرار مباحثات جنيف.
أما الموقف السوري فقد انعكس في تصريحات بثينة شعبان مستشارة الرئيس بشار الأسد، التي استبعدت أن توافق بلادها على وقفٍ لإطلاق النار في حلب، وأنهم ماضون في محاولة تأمين الحدود السورية- التركية واستعادة المدينة بشكل كامل من مسلحي أطراف المعارضة.
يعزو هذا الموقف أن القوات الحكومية السورية تتقدم اليوم في نزاعها ضد مختلف أطراف المعارضة، وأنها تحقق إنجازات ملموسة في الميدان، بالإضافة إلى أنها مستفيدة من الانقسام الدولي حول دعم المعارضة المعتدلة، وفي ذات الوقت من عدم توحد المعارضة وتشتتها وتشتت ولائها لأكثر من طرف دولي. لسان حال النظام السوري يقول الآتي: إذا سيطرنا على مناطق كانت تابعة للمعارضة، ونحن في الطريق لتعظيم وتوسيع نفوذنا وبسط السيطرة الأمنية على العديد من المناطق السورية، لماذا إذن نوافق على تجميد القتال ونحن في أوج قوتنا؟ هذا هو لسان حال النظام السوري الذي يريد الدخول في مباحثات جنيف بعد أن يّؤمّن مدينة حلب بالكامل، وهنا يأتي العامل الثاني ألا وهو ضبط الحدود السورية- التركية، ذلك أن الصُداع المزمن الذي أرهق القوات الحكومية السورية كان يأتي من تلك الحدود التي شهدت دخولاً لآلاف من قوات المعارضة عبر تركيا. إذا تمكنت القوات الحكومية السورية بالفعل من السيطرة الكاملة على حلب، فلعل ذلك يشكل خطوةً مهمةً نحو تحقيق اختلال في موازين قوى النزاع لصالح النظام السوري، مع استثناء تنظيم "داعش" الذي يعتبر إرهابياً بنظر كافة دول العالم.
الولايات المتحدة الأميركية ألمحت إلى أنها ستتخذ إجراءات في سورية في حال لم يتم الاتفاق لوقف إطلاق النار واستكمال المسار السياسي، وهذا الموقف يجده شخص مثل وزير الخارجية الفرنسي المستقيل لوران فابيوس متأخراً، ذلك أنه انتقد سياسة واشنطن بشكل علني واعتبرها غامضة وتسهم في المشكلة.
ليس هذا فحسب، بل إن المعارضة المعتدلة مستاءة من الموقف الأميركي إزاء الأزمة السورية، خصوصاً وأن قوات المعارضة كانت قد طلبت من واشنطن تزويدها بمعدات قتالية ثقيلة، فضلاً عن صواريخ مضادة للطائرات، غير أن الولايات المتحدة لم تستجب لهذه الطلبات خوفاً من أن تستولي "داعش" على تلك المعدات.
يبدو من الصعب جداً أن تقدم واشنطن على عملية عسكرية برية داخل سورية تستهدف نظام الرئيس الأسد، لأن ذلك سيعني الاصطدام المباشر مع القوات الروسية، لذلك ليس هناك من خيارٍ سوى بترقب المفاوضات التي تعقد بين روسيا والولايات المتحدة تحديداً لفهم كيف تسير الأزمة السورية.
في ضوء هذه التطورات المُتسارعة قد يحدث الآتي: إما أن تتفق الولايات المتحدة وروسيا على تجميدٍ لإطلاق النار في حلب بعد وقت زمني تكون فيه القوات الحكومية قد حققت مكاسب على الأرض، خصوصاً في ظل اقتراح موسكو للبدء في تجميد النزاع مع بدايات شهر آذار المقبل، أو أن لا يتفق الطرفان وبالتالي يكون أمام القوات الحكومية السورية وقت جيد لإنهاء النزاع في مدينة حلب.
حتى هذه اللحظة الأمور تسير نحو مواصلة النزاع في هذه المدينة الاستراتيجية التي إذا أحكمت القبضة الأمنية السورية عليها، فإن ذلك يشكل مؤشراً على أن النظام السوري مقبل على حسم النزاع عسكرياً، والاستفادة من توسعاته العسكرية في تصليب موقفه التفاوضي.
ربما السيناريو الأكثر واقعية للمشهد السوري يتصل بعدم اتفاق الدول المؤثرة في النزاع السوري على آلية لوقف إطلاق النار بين فرقائه، دون أن يقطعوا حبل التواصل، وبالتالي الانتقال من اجتماع إلى آخر ومن طاولة إلى أخرى، وفي نفس الوقت يكون النزاع السوري على أشده والضغط الحكومي السوري من كافة الاتجاهات، لكسب إنجاز تاريخي يُحصّن النظام من "شر" أي عملية تفاوضية مقبلة.
الأيام المقبلة حُبلى بالتطورات التي من شأنها أن تبين خريطة طريق الأزمة السورية التي تمضي على طريق الحل بالقبضة العسكرية، خصوصاً وأن أزمة متشعبة وذات عناوين كثيرة مثل الأزمة السورية، سيكون من الصعب حلها بالسياسة قبل أن تتدخل القوة حتى تحدد مسار هذه السياسة.