كثيرة التصريحات التي تصدر عن مسؤولين أميركيين وإسرائيليين وسعوديين، بشأن قرب التوصّل إلى «صفقة تطبيع» بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، لا تدلّ بالضرورة على أنّ الاتفاق بات مؤكّداً.
السعودية تدير الملفّ بذكاءٍ شديد، ينطوي على ثقةٍ عالية بالنفس واحترامٍ لقدرات السعودية وتطلّعاتها، وموقعها المسؤول في الإطارين العربي والإسلامي.
تصرّ المملكة على إشراك الفلسطينيين في المفاوضات، تأكيداً لالتزاماتها القومية بشأن القضية الفلسطينية من ناحية، وتأمين غطاءٍ فلسطيني رسمي لخطوتها الاستراتيجية.
تتحرّك المملكة براحةٍ تامّة إزاء خيار «التطبيع»، باعتباره خياراً، وليس مفروضاً عليها، فلديها خيارات أخرى مفتوحة على تحقيق طموحاتها في ظلّ المتغيرات الدولية.
السعودية تتصرّف منذ بضعة أشهر من موقعٍ سيادي ومستقلّ غير خاضعٍ لهيمنة أحد، خصوصاً الولايات المتحدة، وقد اتخذت جملة من الخطوات المزعجة للإدارة الأميركية، وهو مؤشّر على فهمٍ أعمق لكيفية التعامل مع المستجدّات الدولية والإقليمية بما يخدم المصلحة الوطنية وما هو أبعد من ذلك.
كانت معاودة السعودية تقديم الدعم المالي للسلطة الوطنية الفلسطينية وتعيين سفير لها غير مقيمٍ، وقنصلاً في القدس، خطوة في اتجاه تأكيد التزام المملكة بالقضية الفلسطينية. وخطوة في اتجاه تأكيد جديتها في المفاوضات من أجل إتمام هذه الصفقة.
مع ذلك فإنني لا أرى سبباً يدعو للاعتقاد بأن هذه التصريحات والخطوات دليل على إمكانية أو سهولة أو قرب التوصّل إلى اتفاق.
الكلّ يدير مناورات كبرى، وعمليات خداع، لا تنطلي على أطراف هذه المفاوضات، فالكلّ يعرف ما يفكّر به الآخر، ولكنّ مثل هذه المعرفة لا توفّر ضمانةً أكيدة من أنّ الاتفاق في حالة التوصّل إليه يمكن أن يجد طريقه للتنفيذ والالتزام، خصوصاً من قبل الطرفين الأميركي والإسرائيلي.
المملكة ألقت بالكرة الملتهبة في حضن الولايات المتحدة وإسرائيل، فيما سهّلت السلطة الفلسطينية وصول الكرة إلى حيث استقرّت، فلقد أبدت السلطة تساهلاً حين تجاهلت موضوع الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس كشرطٍ أساسي وثابت.
السلطة الفلسطينية هبطت بسقف الشرط الفلسطيني في «الصفقة» إلى مستوى ما أعلن عنه مسؤول فلسطيني فضّل عدم ذكر اسمه وصفته، في أنّ السلطة تدعو إلى وقف إسرائيل إجراءات أُحادية مقابل وقف الفلسطينيين من جانبهم إجراءات أُحادية.
تتضمّن الإجراءات الأُحادية المطلوب وقفها من قبل إسرائيل، وقف الاستيطان والتوقُّف عن الغارات الإسرائيلية على المدن والمخيّمات، وضبط عنف المستوطنين.
مقابل ذلك توقف السلطة التحقيقات التي طلبتها من مؤسّسات دولية ضدّ إسرائيل، ولا نعرف إن كانت هناك إجراءات أُخرى أُحادية في جُعبة السلطة يمكن أن تدخل ضمن هذه المعادلة.
قد يصف البعض هذا الهبوط في سقف المطالب الفلسطينية على أنه استمرار لسياسةٍ هابطة وتخلٍّ عن الحقوق الوطنية، لكنّه يمكن أن يندرج في سياق تكتيكٍ سياسي، يقوم على تقييم بأنّ الصفقة لن تتمّ لأسباب إسرائيلية وأميركية، وبهدف تعميق الأزمة الداخلية في إسرائيل، وتعميق الخلاف الأميركي الإسرائيلي.
الثقة تغيب بين الأطراف، ذلك أنّ بايدن يهتمّ بالدرجة الأولى في أن يحصل على إنجاز يساعده على الفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة، وهو وإدارته لا يجرؤون على ممارسة ضغطٍ حقيقي لإلزام إسرائيل بسياسات ومواقف وإجراءات لا تريدها إسرائيل.
الولايات المتحدة مجرّبة، فهي لم تلتزم بما وعدت به الدول التي وقّعت «اتفاقيات ابراهام» قبل ثلاث سنوات، فلم تحصل الإمارات على طائرات «ف 35»، وأسلحة متقدّمة.
والسياسة الأميركية مجرّبة، في إطار مسؤوليتها عن إلزام إسرائيل، بـ»اتفاقيات أوسلو»، أو بمفاوضات مجدية، أو بدعم «رؤية الدولتين» أو بمطالبتها المتكرّرة لإسرائيل بوقف الاستيطان وخفض التصعيد، فضلاً عن عدم التزامها بالوعود التي قطعتها للفلسطينيين خلال وبعد الانتخابات الرئاسية السابقة.
حبال الخيانة الأميركية لحلفائها طويل، وفيه الكثير من المحطّات المؤلمة للحلفاء، الذين تتعامل معهم الإدارات الأميركية من منطق الهيمنة والفوقية والأنانية.
أمّا إسرائيل فحدّث ولا حرج، فهي أصبحت معروفة بتنصُّلها من أيّ اتفاقيات أو تفاهمات أو التزامات تجاه الآخرين، طالما لا تخدم مصالح إسرائيل وأهدافها ورؤيتها التوسعية العدوانية.
مبدئياً، قدّم نتنياهو خلال خطابه أمام مقاعد الجمعية العامة للأمم المتحدة، ما يؤكّد حقيقة أنّ إسرائيل تكذب علناً وأمام الأشهاد.
كان على نتنياهو وهو يُدلي بخطابه ويدّعي أنّ إسرائيل ومن خلال «التطبيع»، ستساهم في تحقيق الأمن والاستقرار والسلام في الشرق الأوسط، كان عليه أن ينظر إلى القاعة الفارغة إلّا من المقاعد، وعدد من الموظّفين، ليتأكّد أنّ كيانه معزول ولا يجد من يصدّقه أو يدعم ادّعاءاته.
في الوقت الذي كان يتحدّث فيه عن «مزايا التطبيع»، و»السلام الموعود» قدّم نتنياهو لوسائل الإعلام الخارطة التي يراها، ويسعى لفرضها كيانُه العنصري الفاشي.
كلّ فلسطين بما في ذلك قطاع غزة، هو «دولة إسرائيل الموعودة» كما يراها نتنياهو، وكأنه يؤكّد ما سبق أن قاله بأنّ إسرائيل ليس لديها ما تقدّمه للفلسطينيين، وأنّ حكومته ماضية في مخطّطاتها لحسم الصراع، وبالتالي فإنّه من خلال خارطته يرفض الالتزام بتقديم أيّ شيء للفلسطينيين.
ويكذب نتنياهو حين يعلن أنّه صاحب القرار في الحكومة الإسرائيلية، فلقد أكّدت الوقائع، أنّه محكوم، ومقتنع بالسياسات والأهداف التي يطرحها زميلاه بن غفير وسموتريتش. وأنّه أي نتنياهو محكومٌ لمعادلات تقيّده في الحكومة وفي الإطار الأوسع السياسي والاجتماعي الذي يشير إلى عمق أزمة الكيان. لا ينتهي الأمر عند هذا الحدّ، فللحديث بقية.