هل نحن، أيضاً، شعبُ الفُرَص «الضّائعة»؟

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

 


تأقلمتْ الحركة الصهيونية مع المتغيرات الدولية منذ بدايات القرن الماضي، وأدرجت مشروعها في سياق هذه المتغيّرات، واستطاعت أن تكيّف مشروعها مع متطلّبات الانخراط العضوي في المنظومات «الغربية»، مستفيدةً من كلّ ظرف، ومن كلّ فرصة، ومن كلّ مساحة مهما كانت تبدو صغيرة أو ضيّقة آنذاك.
فقد استفادت من نشوء عصر القوميات الحديثة، واستثمرت في حاجة «الغرب» أو رغبته في «التخلّص» من الأعباء التي كانت تشكّله القوميات والأديان والإثنيات الأُخرى في المجتمعات الأوروبية، وبلورت في هذا السياق «مشروعها القومي» الخاص بها بعيداً عن تلك المجتمعات، وأبدت استعدادها الكامل وغير المشروط لكي تلعب الوكيل والحارس للمصالح «الغربية» في منطقة الإقليم العربي مقابل دعم «الغرب» الكامل والمطلق للمشروع الصهيوني في فلسطين.
هكذا بُني المشروع الصهيوني، وتطوّر وتفوّق في ظروف تاريخية مُواتية، مكّنته من إقامة إسرائيل، ومكّنت إسرائيل من استكمال المشروع بعد حرب حزيران 1967، وتواصلت توسّعيتها، ورفضت السلام الحقيقي، حتى وصلت اليوم إلى نقطةٍ حاسمة، وإلى مفترق طرقٍ لا تعرف، ولا تقوى إلى أيّ اتجاه تدور من هذا المفترق.
قبل عقود طويلة، ذكرت مجموعة من الباحثين في دراسة المستقبليات أن إسرائيل ستصل في يومٍ من الأيّام إلى نقطةٍ ليس بمقدورها أن تدخل في عملية سلام، وليس بمقدورها أن تستغني عن هذا السلام بواسطة الحرب. أي أنّها لن تعود قادرةً على «تعويض» السلام بالحروب.
لم يتوقّع هؤلاء «المستقبليُّون» أن يضاف إلى هذا الفصل الذي وصلت إليه أوضاعها الداخلية، وتفاقم هذا الوضع إلى أعلى درجات الأزمة، بحيث أنّ هذا العامل الأخير (أي الأزمة الداخلية) ستكون هي بالذات ما تحوّل الحرب إلى «مستحيل» سياسي، وأن تحوّل «السلام» إلى مستحيل مضاعف، وذلك لأنّ كلا «المستحيلين» عاجزان في الواقع عن حلّ هذه الأزمة بسبب حدّة ودرجة الاستقطاب.
إذا أمعنّا النظر في واقع إسرائيل اليوم، أليس هو الواقع الذي بات بالذات المظهر الأساس فيها؟
صحيحٌ أنّ فُرَص «السلام» قد أُهدرت بسبب طبيعة المشروع الصهيوني أساساً، وصحيحٌ أنّ مشروع «السلام» كان سيضع حدّاً نهائياً لطموحات هذا المشروع، وكان سيقلّص طموحاته الجيوسياسية، مقابل إمكانيات على التمدّد الاقتصادي أكثر جدوى، وأقلّ مغامرةً وخسائر، لكن الصحيح، أيضاً، هو أنّ الطابع الاستعماري العنصري كان هو الغالب والطّاغي، وهو الذي «نجح» في نهاية الأمر «بتكبيل» إسرائيل، وأوصلها إلى ما وصلت إليه اليوم.
أقصد لو أنّ إسرائيل «امتلكت» شجاعة السلام لما كان حالها اليوم هو حالها، ولما كانت أزمة «اليمين» فيها قد تفاقمت إلى درجة تحوّل فيه مجرّد «التخلُّص» من المستوطنات إلى ما يوازي الحرب الأهلية الشاملة، ولما كان حال «قوى السلام» الآن التي تدير وجهها عن أيّ سلامٍ كما تفعل الآن، باعتبارها (أي قوى السلام) مجرّد بقايا وحُطام من الحالمين أو من المنبوذين والهامشيّين والمهمّشين في مجتمعٍ كان يخرج بمئات الآلاف لينادي بالسلام، بصرف النظر عن مدى تطابق هذا المحتوى مع العدالة والإنصاف والتوازن!
وحتى عندما طُرِحَت «مبادرة السلام العربية» لم يكن متاحاً التعامل معها بمسؤولية من الجانب الإسرائيلي، لأنّ «اليمين» على ما يبدو كان قد أحكم سيطرته السياسية والثقافية على إسرائيل، وحيث تابع مسار هذا الإحكام إلى إمساكه بالكامل بمفاصل حيوية من الدولة والمجتمع في إسرائيل.
في الإجابة عن سؤال المقال «هل نحن، أيضاً، شعبُ الفُرَص «الضّائعة»؟ ليس المقصود مطلقاً أنّه قد توفّرت أمامنا فُرَص لسلامٍ حقيقي، ونحن قمنا بإهدارها! وإنّما المقصود أنّنا لم نستثمر جيّداً، وكما يجب، وأحياناً أخفقنا في قراءة متغيّرات العالم، ومتغيّرات الإقليم، ليس للوصول إلى سلامٍ متوازن، وإنّما كان هذا الإخفاق في عدم قدرتنا على الاستثمار بما يمنع وصول «الحلّ» الإسرائيلي إلى الدرجة التي يحاول جاهداً الوصول إليها، أو قطع الطريق على الأوهام التي باتت تُعشش في وعيه السياسي والثقافي على حدٍّ سواء.
أقصد أنّ العامل الذاتي الصهيوني والإسرائيلي قد استثمر في المتغيّرات الدولية والإقليمية ليرسّخ مشروعه، ويقويه، ويعزّز من دوره ومكانته، وينخرط في صُلب مصالح حماة المشروع ورعاته.
وأقصد، أيضاً، أنّ الاستراتيجية الصهيونية قد بنت مشروع كيانها، ليكون ملحقاً بالمشروع «الغربي»، وأداةً من أدواته لكي تنتقل تدريجياً إلى مشروعٍ شريك، على «أمل» أن تتمكّن من التحوّل إلى عنصرٍ داخلي ضاغط ومؤثّر في الدوائر السياسية «الغربية»، ما سيعطيها (أي لإسرائيل) هوامش من القرار «المستقل»، إذا لزم الأمر!
إذا قِسنا الحالة الفلسطينية بمثالٍ واحدٍ فقط، وهو المتغيّرات الدولية والإقليمية فما الذي نجده أمامنا؟!
العالم يتغيّر، والبلدان تتمرّد، وتتململ، وترى أنّ لديها فرصةً جديدة قد لا تتكرّر، وتستثمر، وتناور من أجل تحقيق مصالحها الوطنية، وينطبق هذا على معظم البلدان الصاعدة بما في ذلك البرازيل والهند والأرجنتين. وتحاول كلّ من مصر والجزائر والمغرب، واستثمرت قبلهم كلّهم إيران، واليوم بعض البلدان النامية والفقيرة في القارة الإفريقية تحاول أن تستثمر في المتغيّرات، وتستفيد منها للتخلّص من التبعية المطلقة لـ «الغرب»، وأدواته التي يُسخّرها لتحقيق مصالحه.
فماذا فعلنا نحن لكي نتأقلم مع هذه المتغيّرات، ولكي نطوّر استراتيجيتنا مع متطلّباتها ومقتضياتها؟
من حيث الجوهر لا شيء، أمّا من حيث الشكل فهذا كلّه لا يلبّي الغرض، ولا يحقّق المطلوب.
لماذا نشتُم الولايات المتحدة الأميركية في العَلَن، في حين ما زالت كلّ أوراقنا بأيديهم؟
ولماذا ما زلنا نراهن على بعض الكلمات الشاردة حول «حلّ الدولتين»، دون أن نطالب قبل أيّ دورٍ أميركي بالمطالب الوطنية التالية، وذلك على سبيل المثال، لا الحصر:
-    نريد أن نسمع كلاماً رسميّاً، مكتوباً وموثّقاً من أنّ الأراضي المحتلة منذ العام 1967 بما فيها القدس الشرقية، هي أراضٍ محتلّة، وليس متنازعاً عليها.
-    نريد أن نسمع، إذا كانت الولايات المتحدة «جادّة» في مسألة «حلّ الدولتين» أنّ هدف المفاوضات هو إنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة غير القائمة حتى الآن في معادلة «حلّ الدولتين»، والبحث عن حلّ عادل لقضية اللاجئين.
عندما تقرّ الولايات المتحدة بهذه المسائل، وهي لن تقرّ بها أبداً ومطلقاً إلّا بسبب ما يجري من متغيّرات دولية في هذه المرحلة الجديدة، وبالتالي فهذه هي الفُرَص التي أقصدها وأتحدّث عنها.
وأيضاً، فيما يتعلّق بالوضع الإقليمي ماذا أعددنا للمتغيّرات فيه؟
وهنا دعوني أكون في منتهى الصراحة.
نحن نعرف أنّ العربية السعودية ليست بحاجة مطلقاً للحصول على مفاعل نووي أميركي، لأنّ هناك أكثر من عشر دول مستعدّة لإقامة مثل هذا المفاعل، هذا إذا كانت المملكة لم تتّفق مع بعض هذه البلدان، وأنّ الأمر يسير منذ مدّة طويلة على هذا الطريق.
والعربية السعودية ليست بحاجة ماسّة لـ»اتفاقية دفاع مشترك»، وهي ليست بحاجة ماسّة إلى أسلحة أميركية متطوّرة إلى درجة أن تُقايض «التطبيع» بهذه المطالب.
إذا أردتم رأيي، فإنّ ما تهدف إليه العربية السعودية هو (استقرار الإقليم)، وهذا لن يتمّ من دون حلّ الصراع مع إسرائيل، لأنّ العربية السعودية تحتاج إلى عقدٍ أو عقدين من برامج التنمية التي تخطّط لها، وبالتالي فإنّ حلّ الصراع هو مصلحة سعودية، وأولوية خالصة، أي أنّ القضيّة الفلسطينية لم تعد عبئاً على أحد، إذا لم نقل بأنها يمكن أن تتحوّل إلى رافعة بدلاً من ذلك.
فهل أعددنا أنفسنا لهذه المتغيّرات؟
ثمّ ماذا سينفعنا كلّ ذلك، في متغيّرات العالم، ومتغيّرات الإقليم إذا بقينا على ما نحن فيه من فُرقة وتشتُّت وانقسام؟
أين هي خططنا لمواجهة المرحلة الجديدة؟