هل طُويت صفحة الصراع العربيّ – الإسرائيليّ؟

تنزيل (19).jpg
حجم الخط

بقلم محمد السماك

في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، أعدّ المستشرق الأميركي الإنكليزي برنارد لويس دراسة لتقسيم العالم العربي – الإسلامي من باكستان حتى المغرب. قضى مشروع التقسيم أن يكون لكلّ جماعة دينية أو مذهبية أو عرقية كيان سياسي خاصّ بها.
كان التبنّي الأميركي للمشروع يقوم على أساس أنّ هذه الكيانات المصطنعة ستكون مدينة بولائها لمن صنعها، أي للولايات المتحدة. ومن خلال هذا الولاء يمكن التصدّي للمشروع السوفيتي في ذلك الوقت الذي يطمح إلى التمدّد نحو المياه الدافئة في البحر المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي حتى المحيط الهندي.

العرب اعتصموا بوحدتهم
اعتصمت الدول العربية بوحدتها، إلا أنّها لم تتمكّن من إفشال المشروع الذي لم يتخلَّ عنه أصحابه. وهكذا انقسم السودان إلى دولتين جنوبية وشمالية. وتقف الدولة الشمالية الآن قاب قوسين أو أدنى من التشرذم بين دويلة عاصمتها الخرطوم بقيادة محمد دقلو (حميدتي) زعيم قوات الدعم السريع، وثانية عاصمتها بورسودان بقيادة قائد الجيش الجنوبي عبد الفتاح البرهان، وثالثة في دارفور تبحث عن قائد.
في انتظار نتائج لقاءات التسوية والمصالحة بين السعودية والحركة الحوثية في اليمن المدعومة من إيران، فإنّ اليمن لم يعد يمنَيْن، شماليّاً عاصمته صنعاء، وجنوبياً عاصمته عدن، فحسب، بل بات مرشّحاً لمزيد من التشظّي باتجاه الشرق وعاصمته مأرب.
في سورية حكومة في دمشق وسلطات متمرّدة ومتناثرة في شمال سورية وشرقها وجنوبها. وفيها قوات أميركية وروسية وتركية تشكّل مظلّات أمنيّة لمشاريع سياسية انفصالية.

أمّا ليبيا فلم تتمكّن حتى مأساة الإعصار من إعادة توحيدها سياسياً. فهي منقسمة بين حكومتين على الأقلّ في كلّ من بنغازي في الشرق وطرابلس في الغرب.
من جهته، يعاني العراق من تردّي العلاقات مع شماله الكردي الذي يتمتّع باستقلال ذاتي، وفي هذا الوقت تعود صيحات الفدرالية إلى الارتفاع في لبنان من جديد، وكأنّ اللبنانيين لم يتعلّموا من دروس الماضي شيئاً.
من جهة أخرى، يجري تحريض قبائل النوبة بين السودان ومصر، والقبائل الصحراوية (الصحراء المغربية) بين المغرب وموريتانيا للانفصال عن أوطانها، وتبقى ورقة قبائل وعشائر الأمازيغ في المغرب والجزائر قنبلة موقوتة جاهزة للاستخدام.
حتى فلسطين أو ما بقي منها انقسمت تحت الاحتلال إلى كيانين منفصلين: غزّة والضفّة الغربية. الأولى تحت مرمى الصواريخ الإسرائيلية. والثانية في قبضة جيش الاحتلال الإسرائيلي. والقسمان الفلسطينيان لم يوحّدهما حتى العدوّ المشترك.

تقسيم المقسّم لم يعد مطلوباً
هكذا لم يعُد مشروع تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ في العالم العربي مطلوباً لمواجهة خطر التمدّد الروسي إلى المياه الدافئة في المتوسط والبحر الأحمر والخليج وبحر العرب. ولكنّ المشروع مطلوب إسرائيلياً لتفكيك القبضة العربية وشرذمة قواها وتحويل الصراع العربي – الإسرائيلي إلى صراع عربي – عربي بأبعاد قومية ودينية ومذهبية.
تشكّل هذه التقسيمات والانقسامات القاعدة الأساس التي يقوم عليها الأمن الاستراتيجي لإسرائيل. وكما ذكرت صحيفة "إيفونيم" للدراسات والأبحاث الإسرائيلية توفّر الانقسامات العربية – العربية الأمن الاستراتيجي لإسرائيل أكثر ممّا توفّره لها القنبلة النووية أو مظلّة الحماية الأميركية. وكأنّ مشروع برنارد لويس (وكان يهودياً) لم يوضع إلّا من أجل هذه الغاية!!
غير أنّ تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل (الأخوّة الإبراهيمية) يطرح علامة استفهام حول ما إذا كانت حركة التطبيع توقف حركة التقسيم.
من الملاحظ أنّ السودان كان آخر المطبّعين. ولكنّ التطبيع لم ينقذه من شرّ التقسيم الذي أصبح واقعياً الآن.
لقد تغيّر المشهد العامّ. فالدول العربية القادرة على المواجهة العسكرية لم تعُد ترغب بها. والدول الراغبة لم تعُد تملك القدرات اللازمة لها.
يشكّل هذا الواقع الجديد معادلة جديدة في الشرق الأوسط. بموجب هذه المعادلة تحظى إسرائيل بمزيد من الإقبال على التطبيع العربي معها. وهذا أمر يمنحها مزيداً من الشعور بالاسترخاء. وهو شعور يسحب قواعد التماسك بين الصهيونية الدينية والصهيونة المدنية في مواجهة عدوّ مشترك لم يعُد هناك أو حتى لم يعُد عدوّاً.

لقد أدّى مشروع برنارد لويس هدفه الأساس في تحقيق الأمن الاستراتيجي لإسرائيل. فانقسم المنقسمون وتجزّأ المتجزّئون، واطمأنّ الإسرائيليون.
لكنّ التاريخ أثبت أنّ الاطمئنان كان دائماً مصدر خطر على الوحدة اليهودية. لا بدّ من عدوّ يشكّل حافزاً لإقامة الوحدة وللمحافظة عليها. ولذلك لم تُطوَ صفحات مشروع برنارد لويس، فما يزال سيفاً مسلّطاً على البقيّة الباقية من مظاهر الوحدة، أو حتى التعاون بين دول العالم العربي والإسلامي من باكستان حتى المغرب.