محمد وبيان*

196
حجم الخط

أصبحنا نتداول أخبار الموت في عالم التواصل الاجتماعي دون مراعاة للصدمة التي سيتلقاها المستقبِل. 
فجأة يقول لك الـ"فيسبوك": إن محمد أبو عين انتقل إلى رحمة الله تعالى، ومصادفة وأنا أتصفح الـ"تويتر" أجد صورة بيان عابد كتب عليها: "بيان في ذمة الله".
خلال أقل من شهرين فقدت صديقين لا يعوضان لسبب بسيط؛ وهو قلب كل فرد منهم عبارة عن قارة من الحب، التفاؤل، دفء الصداقة، بهما كثير من السعادة النادرة التي لا تجدها إلا في أصحاب القلوب التي ترحل مبكراً تاركين لنا ذكريات لا تنسى. 
بالتأكيد الموت حق، يأتي دون سابق إنذار، يسرقنا ويسرق من نحب، وتستمر الحياة رغم مرارة الفقدان.
يقول الفيلسوف الألماني هيجل: "إن الموت هو الحب ذاته، ففي الموت يتكشف الحب المطلق، إنه وحّد ما هو ربّاني مع ما هو إنساني، وإن الله متوحد مع ذاته في الإنسان في المتناهي.... عبر الموت صالح الله العالم ويصالح ذاته للأبد مع ذاته" . 
الفقدان يعلمنا كيف يجب أن نحب من هم معنا في رحلة الحياة قبل أن نخسرهم، والخسارة أنواع: خسارة تعوض وخسارة لا تعوض. الخسارة التي تعوض_ برأيي_ هي لا تعوض بمقدار ذات الخسارة الأولى، ربما أكثر وربما أقل، بالمحصلة النهائية أنت خسرت أيضاً ما لم يعوض كالخسارة الأولى. 
أما الخسارة التي لا تعوض فهي ضربة قاسية من القدر تغير درب حياتنا بكل ما يحمله التغيير من معنى، وهنا الخيار أمامك إما أن تنهض بعد هذه الضربة المؤلمة، المفجعة أو أن تتحول إلى مومياء بمعنى أن تكون حياً لكنك ميت بنظر من حولك وربما بنظر ذاتك إلى ذاتك.
سألت ذاتي بعد أن تلقيت خبر وفاة بيان؛ ما معنى أن تعيش اليوم وتموت غداً؟! فحضر في مخيلتي بيت شعر للشاعر طَرفة بن العبد - وهو أحد شعراء المعلَّقات - اعتنى بموضوع الموت، واستمدَّ منه فلسفةً للحياة، ومنهجاً فكرياً للإنسانية.  
يشير طرفة إلى قضية "اللاخلود" فيقول في أحد أبياته: 
"ألا أيُّهذا اللائمي أَشهد الوَغَى... وأن أنهلَ اللذاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي". وهو بيت يسأل فيه الشاعر الإنسان الذي يعاتبه على حضور الحرب، وحضورِ الملذات، فهل يمكن له أن يخلِّده إن كفّ عنها.
والغريب بالأمر أن هناك أشخاصاً نعتبرهم أمواتاً وهم ما زالوا على قيد الحياة، لا نتعامل معهم سوى في الضرورة القصوى، وكأننا نقول لهم: "أنت في عالم وأنا في عالم". ما أقسى الإنسان على الإنسان!! علمني رحيل محمد وبيان بأن الحياة جميعها لا تساوي جناح بعوضة.
قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم): "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء".
حتى في رحيلهم المبكر يعلمونا بابتساماتهم التي لن تهجر عقولنا؛ أن نحب بعضنا البعض كأقل شعور بالإمكان أن نتبادله بيننا نحن بني البشر.
خسرت من أحب تناول القهوة معه مصادفة وكأننا في موعد مسبق، فنتحدث مع بعضنا البعض وكأن هناك أجندة مخصصة لاجتماع. آخر لقاء كان مصادفة متوقعة.. جلستُ خلف بيان في جاهة خطبة صديق مشترك لنا لم نتوقف عن الضحك، فقال: "لو سألوا عن زلمتنا فكرك بعطوه؟!! شد حيلك أنت كمان شو مالك؟؟ شو ناقصك ولا شكلك متزوج القهوة بكفي غزل فيها... انصح صاحبك ضايل معاه وقت إذا بده يبطل يفسخ هلا" 
شربنا القهوة كما لم ينصح بها الشاعر محمود درويش ورحلنا سريعاً "القهوة لا تشرب على عجل، القهوة أخت الوقت تحتسى على مهل، القهوة صوت المذاق، صوت الرائحة، القهوة تأمل وتغلغل في النفس وفي الذكريات". 
وفقدت ذلك الأخ الذي أعشق جنونه ورقصه وأحاديثه التي كانت تصل إلى ما بعد منتصف الليل كآخر لقاء، جلسنا تحت ضوء القمر تحدثنا بمواضيع يتحدث بها الإخوة مع بعضهما البعض فقط، كان يسمع ويثور غضباً من كلماتي وأثور أنا من عباراته المحكمة، نتجادل بجنون حتى التعب من ذاتنا التي كنّا نبحث بها عن مستقبلنا، ذلك المستقبل الذي انتهى وأنا في وداعك الأخير وأنت بداخل النعش. مرّ شريط ذكرياتنا في جامعة بيرزيت.. رام الله.. شويكة.. الأماكن التي نحب.. الجنون ..الرحلات... الأحاديث التي لا تنتهي.

*رثاء للأصدقاء محمد أبو عين وبيان عابد رحمهما الله.