ملاحظات إضافية عن دلالات أعمار الزعماء

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

 

 

 

في المقال السابق ألقينا نظرة سريعة على القادة والزعماء خلال القرن العشرين الذين أسهموا في تغيير العالم بصورة إيجابية، ووجدنا متوسط أعمارهم فوق الستين عاماً، وأبرزهم: المهاتما غاندي، نلسون مانديلا، فيدل كاسترو، ياسر عرفات، جواهر لال نهرو.
ولكن لو أخذنا عينة من قادة ذلك الزمان والذين أحدثوا تغييرات مختلفة أغلبها سلبية ومدمرة، سنجد أن متوسط أعمارهم كان أقل من خمسين عاماً، وإليكم بعض الأمثلة:
استلم جوزيف ستالين السلطة وهو في الثالثة والأربعين من عمره، وفي عهده حدثت مجاعات رهيبة راح ضحيتها الملايين، وارتكب مجازر دموية وحملات قمع طالت خيرة العلماء والأدباء والمفكرين، وقد أسس بيروقراطية ثقيلة وعقلية أمنية مغلقة كانت من بين أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي لاحقاً.
أما الزعيم الصيني ماوتسي تونغ، فقد تولى قيادة الحزب الشيوعي وهو في أواخر الثلاثينيات من عمره، ودانت له السلطة في نهاية أربعينياته، وطوال عهده ارتكب سلسلة من الأخطاء التاريخية والقرارات المتهورة التي أدت لحرب أهلية، ومجاعات فظيعة أودت بحياة عشرات الملايين، وحين مات كانت الصين من بين أفقر دول العالم.
وكذلك، حين تولى هتلر قيادة الحزب النازي كان بعمر الثالثة والثلاثين، وحين استلم السلطة كلها كان بعمر الثالثة والأربعين، وقد ورط بلاده في حرب عالمية تسببت بمقتل خمسين مليون إنسان، وكان قد عيّن نائبه هيملر وعمره 28 سنة، وعيّن رينهارديش قائداً للغستابو وعمره 30 سنة، ومعروف للعالم ماذا ارتكب ومن معه من جرائم بحق البشرية.
وفي كمبوديا، تولى بول بوت قيادة الخمير الحمر وهو في الأربعينيات من عمره، وخلال سنوات قليلة ارتكب مذابح جماعية مات فيها نحو مليوني إنسان، وقام بتفريغ العاصمة والمدن من سكانها وإجبارهم على العيش في الأرياف والغابات.
وكذلك فعل عيدي أمين، رئيس أوغندا الأسبق، الذي تولى السلطة وهو في سن 35 عاماً، وخلال فترة حكمه قتل نحو 10% من السكان.
ولو أخذنا أمثلة للزعامات العربية، سنجد مثلاً الرئيس جمال عبد الناصر تولى السلطة وعمره 35 عاماً، وأوكل قيادة الجيش لصديقه عبد الحكيم عامر ومنحه رتبة مشير وكان عمره 34 سنة، لذا لم يكن مستغرباً أن الزعيم المحبوب كان صاحب المنجزات التاريخية والأخطاء التاريخية.
أما صدام حسين، فقد شغل منصب نائب الرئيس وهو بعمر 31 عاماً، وكان الرئيس الفعلي للعراق، وطوال عهده ورط البلاد في سلسلة حروب مدمرة، وحكمها بقبضة حديدية بالغة القسوة، وبسياسات متهورة أفضت إلى الواقع المأساوي الذي يعيشه العراقيون اليوم.
وكذلك القذافي، فقد دانت له السلطة وهو بعمر 27 سنة، وحكم البلاد بسياسات فاسدة ومغامرات متهورة، وبسلطات دكتاتورية، قادت إلى النتائج الكارثية التي تعاني منها ليبيا اليوم.
وكان الرئيس اللبناني الأسبق بشير الجميل قد تولى قيادة حزب الكتائب (الذي أسسه والده) وهو في العشرينيات من عمره، وصار رئيساً وهو في الخامسة والثلاثين، وطوال فترة قيادته للحزب كان من أمراء الحرب الأهلية، وعلى علاقات وثيقة بإسرائيل.
ويمكن استعراض أمثلة أخرى، لكن المجال لا يتسع، وهذه مجرد عيّنة إحصائية تم تناولها من زاوية محددة (العمر)، وحتماً هناك العديد من الزوايا الأخرى التي يمكن من خلالها الوصول لفهم أوسع وأعمق للظاهرة (وأيضاً المقال لا يتسع لذلك كله)، وبالطبع الربط بين الرئيس وعمره ليس بتلك السهولة، مع أن العمر عامل مهم لكنه ليس حاسماً، ويمكن الاستدلال بأمثلة لا حصر لها عن رؤساء وملوك تولوا السلطة وهم في سن مبكرة وحققوا نجاحات مهمة وقادوا بلادهم إلى الازدهار والأمان، وسنجد في المقابل قادة وزعماء كانت أعمارهم فوق الستين عاماً، ومع ذلك كانوا فاشلين ومستبدين، أو ارتكبوا جرائم حرب فظيعة مثل: تشرشل، ترومان، شارون، وأغلب رؤساء الولايات المتحدة.
مع أن الأمثلة التاريخية العديدة تسعفنا في التوصل لعلاقة عضوية ما بين عمر الرئيس وطبيعة حكمه، ومدى نجاحه أو فشله، إلا أن عوامل أخرى متداخلة ومعقدة لا ينبغي إهمالها.. عموماً منصب الرئيس ليس كأي منصب، يعني تولي قيادة البلد والتحكم بمقدراته، واتخاذ القرارات المصيرية التي تمس حاضره ومستقبله، وحتى جيرانه، وهذه مسائل خطيرة ومعقدة وتحتاج ثقافة واسعة ودراية وخبرة طويلة وحكمة وسمات شخصية معينة وتدريبات مستمرة في شتى المجالات.. أي تحتاج قائداً بعمر الكهولة والحكمة، قائداً أنضجته السنون على مهل، وعمقت إنسانيته وحسه بالمسؤولية.. ولذلك من النادر جداً أن ينجح رئيس وهو في مقتبل العمر، حتى لو كان النظام السياسي والإداري للدولة متيناً وراسخاً، حيث تظل هناك هوامش عديدة (لكنها خطيرة) تقيس مدى أهلية القائد للحكم، ومدى خبرته وحنكته..
وقد أوضحت لنا الأمثلة التي قدمناها أن هؤلاء القادة «الشباب»، كانوا يتصرفون بتهور واندفاع وبمغامرات غير محسوبة، وبنزعة عنيفة للاستبداد والقمع وخوض الحروب، وقد قادوا بلدانهم للخراب، وفي السياق ذاته يمكن استعراض أمثلة لقادة «شبان» لبعض دول الخليج الذين تورطوا في مشاريع اقتصادية غير مجدية، وانفتحوا بسياسات تطبيع مجاني ومذل مع إسرائيل، وتساوق كامل مع الهيمنة الأميركية، ودون أدنى فائدة لبلدانهم.. وفي أمثلة المقال السابق لاحظنا كيف سلّمت «القيادات الشابة» في أوروبا بلدانها بمقدراتها وقراراتها لصالح حلف الناتو، وضد مصالح شعوبها.