زرت قبل أيام مخيم نور شمس للاجئين الفلسطينيين في منطقة طولكرم، وقبلها زرت مخيم جنين وكلاهما يتعرضان لاجتياحات إسرائيلية وبطش متكرر.
وبدا واضحاً، في ظل الفشل الإسرائيلي المتواصل في وقف المقاومة أو أسر معظم المقاومين، أن جيش الاحتلال ينفذ عقوبات جماعية ضد المخيمين بتدمير همجي للبيوت والمؤسسات والمحال التجارية، وتجريف كبير للطرق والبنية التحتية، بما في ذلك شبكات المياه والكهرباء، على أمل ضرب الحاضنة الشعبية للمقاومة وإضعافها.
وفي خضم ذلك البطش، لا يتورع جيش الاحتلال عن قتل المدنيين العُزل حتى لو كانوا أطفالاً. وتشير الاحصائيات إلى أن جيش الاحتلال والمستعمرين المستوطنين قتلوا منذ بداية العام 243 شهيداً فلسطينياً غالبيتهم من المدنيين و39 منهم من الأطفال.
التقيت في مخيم نور شمس، الذي كما قال سكانه يعاني من ضعف في التغطية الاعلامية، بعائلة الشهيد عبد الرحمن أبو دغش، وأخبرني والده أن ابنه الشهيد كان يقضي أيامه كادحا من أجل تأمين قوت عائلته، وكان يجلس على سطح بيته مع شقيقه وزوجتيهما عندما اجتاحت قوات الاحتلال المخيم، وعندما نهض واقفاً عاجله قناص من جيش الاحتلال، برصاصة اخترقت أسفل عينه لتدمر دماغه وجمجمته وتودي بحياته.
الشهيد عبد الرحمن والد لثلاثة أطفال، أكبرهم طفلة في عامها الدراسي الأول، وابنه الذي كان موجوداً في بيت العزاء ما زال في روضة الأطفال، ولم يتجاوز عمر طفلته الثالثة العامين، وزوجته على وشك ولادة طفلهما الرابع.
ليس الشهداء الفلسطينيون مجرد أرقام. ولذلك ذكرت كل هذه المعلومات التي سمعتها، وقلبي يتمزق وأنا أتابع حركات (وتعابير) الطفل الذي فقد والده، ولم يع بعد معنى أنه أصبح هو وأختاه وشقيقه الذي لم يولد بعد يتامى إلى الأبد.
الشهيد الثاني الذي أودى المحتلون بحياته في مخيم نور شمس مدني آخر، إسمه أسيد الجبعاوي.
صادف وجوده مكاناً قرر قناصة الاحتلال أن يقتلوا فلسطينياً آخر فيه في إطار حملة عقوباتهم الجماعية ضد مخيم نور شمس، وهو عامل أيضاً عمره 21 عاماً، كان قد قدم امتحان الثانوية العامة، وحصل على معدل 82%، وقُبل في الجامعة، ولكنه لم يستطع الالتحاق بها لضيق حاله المادي، و قرر أن يعمل ليوفر ما يكفي من المال لتغطية نفقات دراسته لاحقاً.
عندما التقيت والدته في بيت العزاء الذي تجمعت فيه نساء المخيم وكثيرات منهن والدات وزوجات وأخوات شهداء، رأيت حزن العالم في تعابير وجهها، وعانيت وأنا أبحث عن كلمات تشد أزرها في ذلك الموقف الصعب، إذ ما الذي يمكن أن يخفف ألم أم قضت حياتها تربي ابنها، وتتابع كل يوم نموه حتى أصبح شاباً يافعاً، ليقطع الاحتلال في لحظة، من دون سبب أو مبرر، خيط حياته ويلغي آماله وأحلامه، ويشرخ قلب والديه بجرح لن يندمل أبداً.
جرائم الاحتلال في طولكرم وجنين، ومخيم عقبة جبر في أريحا وفي كل مكان في فلسطين، تترافق مع آلاف الهجمات الارهابية التي يشنها المستعمرون المستوطنون، بحماية جيش نتنياهو ومشاركته، والتي كان من نتيجتها، كما أشار تقرير منظمة "أوتشا" التابعة للأمم المتحدة، أن المستوطنين نفذوا 1614 اعتداء على الفلسطينيين منذ بداية العام الحالي (2023)، وبدأوا عملية تطهير عرقي جديدة أجبرت 1100 فلسطيني على هجر مساكنهم، وأدت إلى تطهير عرقي لعشرين تجمعاً سكانياً فلسطينيا في ما تسمى مناطق ج من مناطق رام الله إلى الأغوار والخليل.
ويذكرنا ذلك بما قامت به العصابات الإرهابية الصهيونية من تطهير عرقي ل 70% من الشعب الفلسطيني عام 1948 بارتكاب 52 مجزرة أشهرها مجزرة دير ياسين.
الشهيدان، عبد الرحمن وأسيد، في مخيم نور شمس مثل مئات الشهداء في مخيم جنين، ومخيمات عقبة جبر والدهيشة وقلنديا وبلاطة وقطاع غزة وغيرها، لاجئون كانوا ضحايا ذلك التطهير العرقي وتلك المجازر، وها هي قطعان الإرهاب الصهيوني تطاردهم و تغتالهم في مخيمات لجوئهم التي يعانون الأمرين من بؤس ظروفها منذ 75 عاماً، وتكدس في سجونها آلاف الأسرى الفلسطينيين، بمن فيهم 1264 أسيرا و أربع أسيرات يخضعون للاعتقال الإداري من دون أن يعرفوا، أو يعرف محاموهم، سبب اعتقالهم أو طبيعة التهم الموجهة لهم.
أما نتنياهو فأصّر، بوقاحته المعهودة أن يوجه لطمة مهينة جديدة للقانون الدولي، والأمم المتحدة، وللمطبعين، والحالمين بالتفاوض معه عندما رفع على منصة الأمم المتحدة خريطة الشرق الأوسط الجديد كما يراه باللون الأخضر، وفي قلبه إسرائيل باللون الأزرق، وضمن حدودها الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان المحتل التي مثلت خريطته وتصريحات وزرائه إعلاناً صريحاً بضمها، مثلما توازت مع إعلانه المتكرر بموت "حل الدولتين" وأنه لا مكان لدولة فلسطينية مستقلة.
لن يوقف أي تطبيع نضال الشعب الفلسطيني، ولن يؤثر في تصميمه على نيل الحرية واسقاط الاحتلال ونظام الأبارتهايد العنصري، ولكن بعد كل ما قيل، هل بقي أي مبرر للتطبيع مع إسرائيل وحكامها؟