هي مفاجأة فجّرها قائد أركان كتائب عز الدين القسّام، محمد الضيف، تكاد تشبه ما حدث قبل 50 عاماً في حرب رمضان عندنا، أو حرب يوم الغفران عندهم، مع الفارق الكبير في حجم القوات وقوة النيران ومدى المعركة. في اللحظات الأولى لحرب رمضان، انهار خط بارليف على قناة السويس، وفي اللحظات الأولى لطوفان الأقصى انهار خط الدفاع الأول للجيش الإسرائيلي في حدود قطاع غزّة، في الأولى، سرّب أشرف مروان (وربما آخرون) أنباء الهجوم للإسرائيليين، لكن رئيسة حكومة الاحتلال، غولدا مائير، أخذتها العزّة بالإثم، فلم تأخذ التسريب على محمل الجدّ، وفي الثانية منيت الاستخبارات الإسرائيلية بفشل ذريع، وخابت جميع تقديراتها. خمس ساعات كاملة مضت وكتائب القسّام تصول وتجول في المستوطنات المحاذية لقطاع غزّة، وصواريخها تقصف عشرات الأهداف في العُمق الإسرائيلي، قبل أن يصدُر أول رد فعل إسرائيلي.
للمرّة الأولى في حروب الجيش الإسرائيلي على القطاع، تبادر المقاومة بشنّ الحرب، وتكون لها الطلقة الأولى. وللمرّة الأولى في تاريخ المقاومة الفلسطينية، تحتلّ المقاومة مستوطنات ومعسكرات للجيش الإسرائيلي، بما فيها مقرّ قيادة فرقة غزّة، وتأسر جنوداً إسرائيليين عديدين، وتقتل وتجرح المئات من المستوطنين، بل وتطلق خمسة آلاف صاروخ في الثلث الأول من ساعة الهجوم الأولى، وتستمرّ بالزخم ذاته في الساعات التي تلتها، لتثبت مدى ضعف جيش الاحتلال وترهّله، ليس فقط على مستوى القدرات الاستخبارية، بل أيضاً على مستوى القدرات القيادية وتقدير الموقف، إذ تحدّثت سيناريوهات إسرائيلية سابقة عن إمكانية سيطرة إحدى فِرق حزب الله على بعض مستوطنات الجليل، وبدأت بوضع خطط وتنفيذ مناوراتٍ لتلافي ذلك، لكن الضربة جاءتها من حيث لا تتوقع ولا تحتسب، وهو فشلٌ استراتيجي كبير.
نظّمت حركة حماس، في الأسبوعين الماضيين، احتجاجات على الشريط الحدودي لقطاع غزّة، وأطلقت بلالين حارقة، ورشقت حجارة، فتدخّل الوسطاء للحيلولة دون تفاقم التوتّر، وجرى التوصل إلى اتفاقٍ يقضي بزيادة تصاريح العمل، وإدخال أصناف من السلع، وتمديد المعونة القطرية. ساد الهدوء، وانهالت معه الانتقادات لحركة حماس، متّهمة إياها باستغلال ظروف الحصار للحصول على مكاسب هزيلة. لم ينتبه أحدٌ إلى أن ما حدث كان مناورة إلهاء كبرى، ولم يتوقّع أحد أن هذا الهدوء سيتبعه طوفان، فنامت الاستخبارات الإسرائيلية ملء عيونها، وكذلك فعلت دوائر عربية وفلسطينية. وعلى الرغم من أن عملية كهذه تحتاج إلى استعدادات وحشد للمئات والآلاف من المقاتلين، فإن قيادة كتائب عز الدين القسّام تمكنت من المحافظة على أعلى درجات السرّية والتكتم، ولعل دائرة من يعرف بهذا القرار وتوقيته لم تتجاوز أركان "القسّام" وحدهم، فكانت المفاجأة الكبرى.
كان واضحاً، منذ البداية، أن "القسّام" تسعى للحصول على أكبر عدد من الأسرى الصهاينة، وجاء ذكر معاناة الأسرى في الفقرات الأولى من خطاب محمد ضيف. وحكاية الأسرى الفلسطينيين تمثّل معاناة الشعب الفلسطيني بأسره، وهي صورة مصغّرة عن طبيعة علاقات السلطة الفلسطينية بالسلطات الإسرائيلية، ونموذج لطبيعة الاتفاقات بينهما منذ "أوسلو"، فمن المسلّمات أن يُطلق سراح الأسرى عند توقيع اتفاقات السلام والتسوية، لكن إحدى مآسي اتفاق أوسلو وملحقاته، أنه في الوقت الذي عاد فيه إلى مناطق السلطة من تولّى تدريب الأسرى وتسليحهم وإصدار التعليمات لهم لتنفيذ عملياتهم البطولية، لم يطلق هؤلاء سراحهم وفقاً للمعايير الإسرائيلية، وتضاعفت أعدادهم من دون وجود أي أمل في منحهم الحرية، وهذا الهدف الذي حدّدته عملية طوفان الأقصى، إضافة إلى دفاعها عن القدس والأقصى الذي واجه في الأيام القليلة الماضية استفزازاتٍ إسرائيلية، ما سيضمن لها تأييداً شعبياً كاسحاً، وسيُدخل الفرحة والأمل إلى عائلة كل أسير.
ولكن جميع ما سبق لا يجيب عن السؤال الرئيس: لماذا نشبت هذه الحرب الآن؟ وما الذي دفع قيادة كتائب عز الدين القسّام إلى اتخاذ هذا القرار، وهي تعلم تماماً ما ستجرّه، وتقدّر نهاياته كما خطّطت لبداياته؟ ولعل الإجابة تتمثل في أن السيل قد بلغ الزبى، والتلاعب بالقضية الفلسطينية قد وصل إلى ذروته، وثمّة تقدير للموقف يفيد بأن مخطّطات تصفية القضية الفلسطينية أخذت منحنى جديداً، في ظل الحديث عن موجة تطبيع عربية جديدة، وتواطؤ السلطة الفلسطينية معها، عبر قبولها بخريطة طريق جديدة، ترتكز على استمرار التنسيق الأمني، وزيادة قدرات الأجهزة الأمنية وتمويلها لضمان الأمن الإسرائيلي، باعتباره مدخلاً لبناء الثقة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. وكما حدث في "أوسلو" باتفاقاته المتفرّعة عنه والمتعدّدة، وكذلك في خريطة الطريق، ستؤجل القضايا كلها إلى مرحلة لن تأتي، لكنها تتيح للأطراف كلها استمرار الحديث عن حلٍّ نهائي، وعن مبادرة عربية، وعن حلّ دولتين دُفن فعلياً، مع الاعتراف بصعوبة تحقيق تلك المبادرة حالياً ما يبرّر تأجيلها. ويستوجب ذلك تصفية المقاومة مرّة أخرى، كما حدث عقب الانتفاضة الثانية، بين محاولة استيعابها في أجهزة السلطة، أو ملاحقتها من إسرائيل. واستناداً إلى تقدير الموقف هذا، قد تبدو الحاجة ملحّة لقلب الموازين السائدة رأساً على عقب، ليثبت أن الشعب الفلسطيني ومقاومته، على تعدّد أشكالها، عصية على التصفية، ويضع الكل الفلسطيني والعربي والدولي أمام مسؤولياته. كما يضع مقولاتٍ وشعاراتٍ ومحاور أمام اختبارٍ عملي لها، منها شعارات وحدة الساحات ومحور المقاومة الذي طلب منه الضيف، بوضوح، ضرورة التدخّل وفتح جبهاتٍ أخرى. ولعل الأيام المقبلة تكشف احتمالات ذلك، خصوصاً أن عملية طوفان الأقصى قد أثبتت مدى وهن الجيش الإسرائيلي الذي انهارت خطوطُه بشكل كامل، وهو ما يشكّل فرصة تاريخية قد لا تتكرّر لأن يكتسح طوفان الأمة كلها هذا الكيان، فيزيده ضعفاً على ضعف.
أعلنت القيادة الإسرائيلية التعبئة العامة، وأعلن رئيس الحكومة، نتنياهو، الحرب بمعناها الشامل، وهذا يعني أن تطوّراتها في الساعات والأيام المقبلة تتجاوز أي معركة أو عملية سابقة، نعم ستكون بعض الساعات صعبة، لكن نتائج المعركة ستضيف إنجازاً كبيراً إلى رصيد المقاومة، اتضحت ملامحه منذ اللحظات الأولى. لن تصبح التنازلات سهلة، وسيكون من الصعب تمرير التطبيع، أو تصفية المقاومة التي تخوض معركتها الرئيسة حالياً، أو استمرار التنسيق الأمني، من دون أن يُنظر إلى من يقوم به خارجاً عن الصف الوطني، ولا شك أن هذه الجولة ستترك بصماتها على فلسطين كلها من نهرها إلى بحرها، والمتوقّع منها هبّاتٍ شعبيةً شبيهةً بالتي حدثت في معركة سيف القدس أو تفوقها. والأيام حبلى بكل ما هو جديد ومشرِق.
عن "العربي الجديد"