ما يجري ليس أكثر من رفع يافطة المصالحة كي تظلل على سياسات جهوية تعاني مأزقا حادا
لم تنجح اجتماعات الدوحة بين حركتي فتح وحماس في إشاعة تفاؤل جدي بإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة. والحديث عن «شبه اتفاق» بينهما بشأن المصالحة لم يتجاوز من حيث الجوهر إعادة تبويب العناوين التي سبق وتم التفاهم حولها في «اتفاق الشاطئ» قبل نحو عامين، ومع ذلك فإن ما تم الإعلان عن التوافق بشأنه أحيل إلى قيادة الحركتين لاتخاذ قرار نهائي بشأنه.
وعلى الرغم من مسلسل الفشل المستمر في تطبيق الاتفاقات والتفاهمات الثنائية والشاملة، فإن أية خطوة تتم بين الحركتين وتؤدي إلى تهدئة تداعيات الانقسام ومظاهر الاحتراب إنما هي محط ترحيب فلسطيني واسع، خاصة في ظل الاستحقاقات التي تفرضها بقوة الانتفاضة التي اندلعت في وجه الاحتلال قبل أربعة أشهر.
من الواضح أن العقبات التي منعت تجاوز واقع الانقسام لا تزال ماثلة في المشهد الفلسطيني ومحيطه. وهي، في الجانب الذاتي منها استمرار لسياسات الخندقة الجهوية على حساب تغليب المصلحة الوطنية العليا. وهذه السياسات هي التي وضعت الاتفاقات الثنائية بين حركتي فتح وحماس في ميزان المحاصصة قبل توقيعها.. وعند الشروع في تطبيقها.
وكلما تحركت إحدى كفتي هذا الميزان لصالح أحد الطرفين شكك في نص الاتفاق وطالب بتعديله ربطا بالتطورات التي يرى أنها وقعت لصالحه على أصعدة مختلفة. وستبقى ـ برأينا ـ هذه المعادلة هي ما يحكم مسار أية تفاهمات بين الحركتين، طالما يمضي هذا المسار بعيدا عن قرارات الحوارات الشاملة وقرارات الإجماع الوطني التي صدرت بهذا الشأن.
وعلى سبيل المثال، ما تم الإعلان عنه في الدوحه مؤخرا بشأن معبر رفح وإعادة تشغيله، سبقه مبادرة وطنية قدمت بهذا الخصوص ولم تجد طريقها للتطبيق، مع أنها تكفل تشغيل المعبر وحل الكثير من مشاكل قطاع غزة، وكان من شأن النجاح في ذلك تفكيك أحد الألغام من الطريق المؤدي إلى استعادة الوحدة.
وكانت الحوارات الشاملة خرجت بقرارات واضحة وضعت أسساً لإنهاء الانقسام ودفعت باتجاه استعادة الوحدة برنامجيا وتنظيميا؛ ويصح التعامل معها كرزمة متكاملة من القرارات. فيما هذا لا ينطبق بالضرورة على اليات تطبيق الاتفاقات الثنائية لأنها كما ذكرنا محكومة بالمحاصصة. ومع هذا الاستعصاء في تطبيق قرارات الحوارات الشاملة، كان من الطبيعي توجيه الجهود نحو تحقيق اختراقات في جدار الانقسام. وهذا ممكن في ظل المهام التي تطرح نفسها بقوة في سياق المواجهة مع الاحتلال وقد حدث ميدانيا خلال العدوان على قطاع غزة صيف العام 2014، وأدى إلى تشكيل وفد فلسطيني موحد للبحث في التهدئة، وهي سابقة إيجابية في هذا الشأن وكان من الممكن البناء عليها في ميادين أخرى.
وعندما انطلق المسعى الفلسطيني نحو الأمم المتحدة للاعتراف بدولة فلسطين، لقي تأييدا معلنا من حركة حماس، وهذا التقاء مهم كان من الممكن البناء عليه وتوحيد الجهد الفلسطيني في هذا المجال. ويسحب الأمر نفسه على أبرز العناوين التي يتشكل منها البرنامج الوطني مثل مواجهة الاستيطان ودعم صمود الأسرى..
وتشكل الانتفاضة اليوم أبرز امتحان لمكونات الحالة الفلسطينية من زاوية تلبية الاستحقاقات التي تفرضها بقوة هذه الانتفاضة. وفي المقدمة من هذه الاستحقاقات تبنيها سياسيا وميدانيا باعتبارها ردا طبيعيا على استمرار الاحتلال وجرائمه؛ وهذا يفتح على وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته في المحاسبة على هذه الجرائم. وهذا ممكن عندما يجد العالم نفسه أمام انتفاضة شعبية شاملة تحظى بالتأييد من قبل جميع مكونات الحالة الفلسطينية، ويجد الاحتلال بالتالي أنه أمام دفع فواتير احتلاله للأرض الفلسطينية.
ومن نافل القول إنه كلما اشتدت المواجهة الشعبية والسياسية مع الاحتلال كلما توارت مظاهر الانقسام وتداعياته، وكانت هذه المعادلة أحد الأسس التي قام عليها نهوض العمل الوطني الفلسطيني خلال عقود سابقة، وحصد انجازات سياسية وكفاحية للشعب الفلسطيني، بعكس ما أدت إليه السياسات التي راهنت على تسويات مجحفة وأدت إلى الانقسام السياسي في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية.
المؤسف أن امتحان الانتفاضة لا يزال يطرح أسئلته بقوة على مكونات الحالة الفلسطينية وبخاصة القوى والأوساط المهيمنة على القرار الرسمي. ويبدو غريبا أن الحديث المتكرر عن تقديم شكاوى إلى محكمة الجنايات الدولية بشأن جرائم الاحتلال بحق شبان الانتفاضة لا يزال بحدود التصريح الإعلامي، ولم يتحول إلى مسار جهد سياسي وديبلوماسي تفترضه المسؤولية الوطنية على المستوى الرسمي الفلسطيني، الذي يملك المفاتيح العملية لتحريك هذا الجهد وتفعيله التزاما بقرارات المجلس المركزي في دورته الأخيرة العام الماضي.
عناوين تجاوز واقع الانقسام كثيرة ومتعددة، لكن هذا الأمر يحتاج من حيث المبدأ إلى إرادة سياسية لدى طرفي الانقسام.
ومع مرور الوقت، باتت تتشكل قناعة لدى الكثيرين أن تحريك ملف المصالحة من حين لآخر، لا يرتبط بشكل جدي بتفعيل هذا المسار باتجاه النتائج المرجوة وطنيا، وأن ما يجري ليس أكثر من رفع هذه اليافطة كي تظلل على سياسات جهوية تعاني مأزقا حادا مع انغلاق المسار السياسي في التسوية واستمرار التمسك به، ومع تأزم الأوضاع في قطاع غزة وتفاقم معاناة سكانه ،في ظل مشهد فلسطيني تتنازعه سلطتان تحت الاحتلال.
ولن ينفع الترحيب بالمبادرة الفرنسية مؤخرا في فك عقدة التسوية لسببين جوهريين، يتعلق الأول بأن هذه التسوية لا تملك أسسا صالحة للوصول إلى حل متوازن وشامل للصراع يكفل تجسيداً غير منقوص للحقوق الفلسطينية، والثاني أن المجتمع الدولي وفي المقدمة واشنطن خارج الاهتمام بهذا الملف في الوقت الراهن على الأقل.
كما لا ينفع الحديث عن إمكانية البناء على الأفكار الفرنسية و«تطويرها» لأن باريس تدرك ما تقدمه على هذا الصعيد وليست بوارد إحداث أي تعديل إرضاء للمفاوض الفلسطيني على حساب رؤيتها السياسية لسبل حل الصراع.
ويفهم من إشاعة التعويل على «تطوير» المبادرة الفرنسية على أنها محاولة فاشلة لتبرير تسويق هذه المبادرة والرهان عليها كما حصل مع مبادرات سابقة، استكمالا لسياسة التمسك بخيار التسوية دون التدقيق بأسسها ومقاربتها مع عناوين البرنامج الوطني التحرري.
المفيد بدلا من ذلك، ويحظى بالإجماع الوطني، الالتفات إلى الأوضاع الفلسطينية الداخلية، وحل مشكلاتها، وتصويب السياسات الخاطئة التزاما بقرارات المجلس المركزي واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.