في الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل على غزة عام 2021، نشرت «حماس» فيديو يظهر فيه مقاتل من القسام يرصد حافلة إسرائيلية كانت تضم نحو خمسين جندياً بكامل عتادهم، وقد انتظر هذا المقاتل الجنود حتى نزلوا من الحافلة ثم ابتعدوا عنها، وبعدها أطلق نحو الحافلة الفارغة صاروخ كورنيت أدى إلى احتراقه.. وقد فسرت «حماس» وأنصارها هذا المشهد بأن «حماس» لا تريد قتل هذا العدد الكبير من الجنود لأن تبعات ذلك ستكون وخيمة على أهل غزة، فسيقتلون مقابل الخمسين جندياً ألف فلسطيني وسيدمرون ألف بيت.. وقد أثنى الجميع على هذا التصرف الحكيم، لأنه بالفعل جنّب غزة دماراً هائلاً وخسائر فادحة.
وفي الحربين التاليتين التي شنتهما إسرائيل على غزة، وقد استهدفت حينها «الجهاد الإسلامي» فقط، لم تشترك «حماس» في المواجهة، واكتفت بالتأييد والدعم غير المباشر من خلال غرفة العمليات المشتركة التي تبين أنها لم تكن فاعلة كما ينبغي، ما سمح لإسرائيل بالاستفراد بـ «الجهاد».. وأيضا بررت «حماس» موقفها هذا بأنه لتجنيب غزة المزيد من الدمار.
وفي سياق متصل صرح السيد حسن نصر الله بعد انتهاء حرب تموز 2006 بأنه لو كان يعلم حجم النتائج لما أقدم على الحرب، ومن بعدها امتص حزب الله جميع الاعتداءات والاستفزازات الإسرائيلية ولم ينخرط في أية مواجهة أخرى، لأن الحزب أدرك بحكمته تبعات الحرب وضرورة تجنيب لبنان دماراً هائلاً..
ما سبق ذكره مجرد ذكر لأحداث وقعت فعلاً واستعراض لمواقف معلنة وليس فيها أي اتهام لأحد، ولا تشكيك بوطنية أحد، هي مجرد حقائق ينبغي تذكرها لتأسيس فهم موضوعي مبني على تسلسل الأحداث بصورة منطقية، ومن ثم طرح سؤال مهم؛ طالما أن حماس تدرك تماما تبعات الحرب، فلماذا أقدمت على هذه الخطوة؟ وما الذي تغير؟ حتى تقوم بهذه العملية البطولية والنوعية وغير المسبوقة، علما أن تبعاتها لن تكون محصورة على أهل غزة، بل ستكون على حماس نفسها بالدرجة الأولى؟ لدرجة أن البعض وصفها كخطوة انتحارية تقامر حماس بمصيرها وبمقدراتها ومستقبلها.. فمن غير المتوقع أن تتلقى إسرائيل هذه الإهانة الكبيرة بسهولة، وألا تقدم على تدمير مقدرات حماس، واغتيال قادتها.. بالإضافة إلى تدمير غزة بعملية انتقامية بشعة.
طبعاً لا جدال في حق «حماس» (وكل الشعب الفلسطيني) بمقاومة الاحتلال، وأنه طالما هنالك احتلال ستكون مقاومة، بل من الخطأ انتظار العدو في كل مرة ليقوم باعتداء ما ثم تأتي ردة فعل المقاومة، فمن الذكاء أن تبادر المقاومة وأن تستخدم عنصر المفاجأة.. هذا كله مشروع ولا خلاف عليه.. الموضوع يتعلق بالتكتيكات الميدانية وتقدير الموقف واختيار التوقيت والأسلوب الأمثل، والتصرف الصحيح، وهكذا..
بداية ينبغي الإشادة بعملية حماس البطولية والتي يتوجب فهمها على أنها انفجار فلسطيني في وجه الاحتلال، وهو انفجار متوقع ومشروع حصل نتيجة الضغط الهائل والظلم الكبير الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني منذ 75 عاماً، ونتيجة ممارسات احتلالية إجرامية بلغت حداً لا يُحتمل، ونتيجة سياسات إسرائيلية متغطرسة ومتعنتة لا ترى الفلسطينيين، وتتجاهل معاناتهم وآلامهم، وتتعامل معهم وكأنهم مجرد «حيوانات بشرية»، كما وصفهم وزير الدفاع الإسرائيلي، في تصريح عنصري بغيض يفضح وجه إسرائيل الحقيقي.
وهذا الانفجار نتيجة حصار خانق وجائر لقطاع غزة دخل عامه السابع عشر، وقد تحمّل فيه أهل غزة فوق طاقة البشر، وبلغت معاناتهم أن غزة صارت توصف بأنها مكان غير صالح للحياة.. وبلا مستقبل.
إضافة إلى ما سبق، كان لدى «حماس» تقديرات بأن إسرائيل تعد لحربٍ جديدة، فإذا وقعت ستكون شبيهة بالحروب السابقة، وستتلقى حماس ضربات موجعة، وستتعرض غزة لمزيد من الدمار، وبالتالي ليس لحماس ما تخسره أكثر، سيما بعد تعرضها لانتقادات شديدة أدت لتآكل شعبيتها، بسبب طبيعة حكمها، وبسبب تخليها عن المقاومة. لذلك اختارت هذه المرة أن تبادر بالهجوم، في محاولة منها لقلب النتائج والاستفادة من عنصر المفاجأة.. وهذا تكتيك ذكي وشجاع.
وبالمناسبة، كانت فكرة اجتياح مستوطنات غلاف غزة موجودة في ذهن حماس منذ سنوات، وقد طرحتها علنا في تسجيلات منشورة، ولكن لم يأخذها أحد على محمل الجد (بما في ذلك الإسرائيليون).. ما كانت تحتاجه حماس الإرادة السياسية من قبل القيادة، واختيار التوقيت المناسب.. بالنسبة للبند الأول على ما يبدو أن الجناح العسكري لحماس أخذ القرار بمفرده وحسم خياره، وفرض الأمر على التيارات المتصارعة داخل الحركة، التي لم تجد أمامها إلا تأييده ومباركته. وهذا يعني أنها حسمت تحالفاتها، واختارت إيران، التي سهلت عليها البند الثاني (التوقيت)، فهي التي تملك القدرات التكنولوجية والاستخباراتية (بمساعدة حزب الله)، وهي التي تزود الحركة بالصواريخ والأسلحة والعتاد.
نأتي إلى محاولة فهم انهيار الجيش الإسرائيلي وفشله الذريع في توقع الهجوم وفشله في التصدي له، بصورة تكاد تكون خيالية، ويمكن القول إن ما حصل نتيجة سلسلة أخطاء أمنية وسياسية جرّتها حكومة نتنياهو اليمينية التي يسيطر عليها الصهاينة المتدينون: الخطأ السياسي الأول تصديق خطابات نتنياهو العنترية والشعبوية بأن إسرائيل قوة خارقة ومتفوقة وأن العالم بحاجة إلى تقدمها التكنولوجي، وأن إسرائيل صارت قادرة على تجاهل القضية الفلسطينية، وأنها نجحت في ترويض الفلسطينيين، وأنها قادرة على مواصلة سياسة التجاهل إلى الأبد.
الخطأ الثاني رهان إسرائيل على أنّ الأولوية في غزّة هي لاستمرار سلطة «حماس»، بهدف إدامة الانقسام الفلسطيني، وكانت ترجمة ذلك سماح الحكومة بتمرير أموال المنحة القطرية، وتقديم تسهيلات شكلية لسكان غزة مثل تصاريح العمل وإدخال بضائع وغير ذلك، ما يخفف بعض المعاناة، ويجعل قبول حكم حماس محتملا، أو على الأقل لا يصل حد الانفجار، وفي الوقت ذاته يبقي حكم حماس ضعيفاً.
ولم تدرك إسرائيل أن احتياجات أهل غزة ليست تصاريح عمل ولا إدخال بضائع.. وتجاهلت أنهم يتطلعون للحرية والكرامة والانعتاق من الحصار كلياً، ومواصلة الكفاح مع باقي الشعب الفلسطيني حتى نيل الاستقلال.
وربما لم تقدر إسرائيل أنّ معاناة الناس في غزّة لا تنطبق على الجناح العسكري لحماس، الذي ظل منفصلاً في تمويله وتحالفاته عن مؤسسات الحركة وقواعدها التنظيمية، وبالتالي لا تعوزه الأموال الواردة إلى غزة، والتي كانت تخضع للرقابة الإسرائيلية.
في المقال التالي سنناقش سلسلة الأخطاء الأمنية الإسرائيلية.