إن القيادة الإسرائيلية لا تستهدف حماس، بل تستهدف تطلعات الشعب الفلسطيني إلى الدولة والتحرر والحرية والكرامة في إطار دفن الحق غير القابل للتصرف في تقرير المصير. إن تأطير الهجوم على غزة الآن على أنه صراع بين نتنياهو وحماس هو موضع خلاف؛ فكيف يمكن استهداف 2.2 مليون مدني في غزة نصفهم من الأطفال، وقصف المباني السكنية، وإخلاء المستشفيات، وإسقاط آلاف الصواريخ على المنازل والمساجد والمدارس بالإضافة إلى قطع المياه والكهرباء والغذاء والإنترنت، وكيف يمكن أن يكون حرمان السكان من إمداد المساعدات الإنسانية يهدف إلى القضاء على جماعة مسلحة؟ الحقيقة ان إسرائيل ترتكب جريمة حرب مكتملة المعطيات في سبيل هدف استراتيجي هو إنهاء المشروع الوطني الفلسطيني, عقاب جماعي وتهجير قسري لتفريغ ٣٦٥كم٢ وضم باقي السواحل المتوسطية المسماة قطاع غزة.
حماس هي ورقة التين التي استخدمتها إسرائيل لكسب الدعم الدولي فيما أصبح يعرف بالحرب ضد "الإرهاب"، تخاذل المجتمع الدولي يمكن تأطيره بأن عنف الضعفاء يسمى إرهابا وعنف الأقوياء يسمى حربا ضد الإرهاب.
لقد تم الترويج عن قطاع غزة كحاضنة لعش "الإرهاب" الذي تم تصميمه ورعايته بإرادة متعمدة من جانب القيادة العسكرية الإسرائيلية. ففي عام 2005، وصف دوف فايسجلاس، كبير مستشاري رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون، انسحاب إسرائيل من غزة بأنه "فك الارتباط الذي هو في الواقع فورمالدهيد"، أي ضمان انتهاء أي عملية سياسية مع الفلسطينيين. إن فك الارتباط هو استراتيجية فرق تسد، مما انتج التقسيم ووأد المشروع الوطني الفلسطيني. علاوة على ذلك، تم تفكيك المستوطنات الإسرائيلية من غزة بشكل أحادي دون تنسيق مع منظمة التحرير الفلسطينية أو السلطة الفلسطينية، الأمر الذي أدى إلى انقسامات مؤسسية وسياسية نعاني منها منذ ما يقرب عقدين من الزمن.
ونتيجة للحصار، عانى سكان غزة العديد من الهجمات العسكرية التي شنتها إسرائيل منذ عام 2007. لقد خذلت الدبلوماسية أرواح 2000 مدني فلسطيني، ٦٠٠ منهم اطفال في غزة في 6 أيام فقط، وحرم هؤلاء الفلسطينيون الذين سُجنوا في أكبر سجن مفتوح لمدة 17 عامًا تحت الحصار الكامل من أبسط حقوقهم ومن الاحتياجات الإنسانية الأساسية، وفوق كل تلك المعاناة تحت 75 عامًا من الاحتلال، عانى المدنيون في غزة من 4 حروب في العقد الماضي وهذه هي الخامسة! في الأعوام 2008 و2012 و2014 و2021 و2023 ارتكبت إسرائيل مجازر وأعدمت أطفالاً ونساء، واستهدفت المدارس والمستشفيات والمساجد. لقد تم توثيق الجرائم وتم إحالة الملفات للمحكمة الجنائية الدولية، بينما إسرائيل مستمرة في الإفلات من العقاب، دون محاسبة.
إن إصدار إسرائيل تعليماتها لـ 1.1 مليون فلسطيني بالانتقال قسراً نحو الجنوب في 13 أكتوبر يترجم إلى نكبة ثانية، حيث تحاول إسرائيل نقل وتهجير السكان بالقسر وإخلاءهم بهدف ضم الأراضي, هذا عقاب جماعي يرتقي لجرائم حرب حسب اتفاقيات جنيف الرابعة وتحديدا المواد ٤٩ و١٤٦ التي تفيد بضرورة حماية المواطنين المدنيين وواجب الدول في محاسبة المجرمين.
إن المجتمع الدولي يوفر الغطاء القانوني لجرائم إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، بينما يحاول إقناع جماهيره بأن أموال الضرائب التي يصرفونها تستخدم في الحرب ضد الإرهاب حيث ربطت اسم غزة بالإرهاب، إشارة لحماس!
إن القوة العسكرية الإسرائيلية والقدرة التكنولوجية العالية جعلت منها حليفاً جذاباً لاتفاقيات التطبيع الثنائية، فكيف يمكن لعقولنا أن تقبل أن الدولة ذات التقنيات الحديثة العالية الجودة التي تمتلك أدوات مراقبة متميزة وأكثرها تطوراً علئ مستوى العالم, غير قادرة على تحديد مواقع الجماعات المقاومة، واضطرارها لمحو 2.2 مليون في ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب؟ في حين أن العالم منجرّ وراء اطار "الحرب ضد الإرهاب" في سبيل تحقيق مصالح جيوسياسية تحول أولويات المنطقة بعيدا عن القضية الفلسطينية لما تروج له إسرائيل لتفريق العالم العربي والإسلامي واشغال الأنظمة بالخطر الممتد من ايران وصولا لغزة. بات الدم الفلسطيني جزءا لا يتجزأ من الحملات الانتخابية وكسب الرأي العام، ليس فقط في إسرائيل ولكن في عواصم العالم المتجه نحو اليمين. ما نشهده هو ترجمة لما جاء في وعد بلفور بجعل الفلسطينيين الأقلية التي تتمتع بالحقوق المدنية بدلاً من حق تقرير المصير. ضروري إدراك هذه الحقائق والمؤامرات حتى يبقى الشعب الفلسطيني موحدا في مواجهة مخططات الاحتلال، ويثبت بصموده وثباته غير المسبوق على الأرض ان الحرية نتيجة حتمية للشعوب المقهورة، وان غزة جزء لا يتجزأ من فلسطين.
دلال عريقات: أستاذة الدبلوماسية والتخطيط الاستراتيجي, كلية الدراسات العليا, الجامعة العربية الأمريكية.