لخصت تصريحات المقررة الخاصة لحقوق الانسان في الأراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيزا البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والانتهاكات الخطيرة التي قامت وتقوم بها حكومات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، والتي أدت إلى انفجار الأوضاع على تخوم وفي ما يسمى بغلاف غزة، واعتبرت أن الأولوية العاجلة هي وقف القتل الجماعي الذي يتعرض له سكان القطاع من أبناء الشعب الفلسطيني وضرورة اغاثتهم الانسانية الفورية.
فما يتعرض له القطاع لليوم الحادي عشر هو حرب إبادة وتطهير عرقي، حيث وكما ذكرت العديد من المصادر أن حجم القذائف والمتفجرات والصواريخ التي أُلقيت على بيوت و رؤوس المدنيين في الأيام الستة الأولى من الحرب بلغ حوالي ستة آلاف طن، وهي تعادل حجم ما ألقته الولايات المتحدة على أفغانستان طوال عام كامل من حربها، وقد أعلن المرصد الأورومتوسطي أن حجم القصف على القطاع حتى اليوم العاشر لحرب الابادة الاسرائيلية يوازي ربع قنبلة نووية.
الفشل الاسرائيلي والهروب للأمام
مظاهر الفشل والارتباك الأمني والعسكري والسياسي لحكومة الاحتلال لم تمنعها من تحديد هدفها العنصري الدفين، الذي سرعان ما كشفته تطورات الحرب والمتمثل بسعي مجلس الحرب بزعامة "نتانياهو - غانتس" لتحقيق جريمة تطهير عرقي تحاكي نكبة عام 1948، فقد أعلن غانتس وفور انضمامه للحكومة أن اسرائيل بصدد احداث تغيير استراتيجي على صعيد الشرق الأوسط، ورغم اعتراف مستشار الأمن القومي تساحي هنغبي بالفشل الذريع، إلا أنه اعتبر أن الحرب تتجاوز تصفية حركة حماس.
حرب إبادة وجرائم حرب
حرب الابادة التي تشنها الطائرات الحربية أحدثت كارثة انسانية، حيث دمرت حتى اليوم الثامن ما يزيد على 13000 وحدة سكنية ، وقطاعات أساسية من البنية التحية، وخلفت حتى ظهر أمس ما يزيد عن 2750 شهيدا جميعهم من المدنيين، منهم 800 طفل ورضيع، و 600 امرأة ، و400 مسن، هذا بالاضافة لما يزيد عن الألف شهيد ما يزالون تحت الانقاض وفق تقديرات الدفاع المدني، والذين فارق عدد منهم حياته لعدم التمكن طواقم الانقاذ من الوصول اليهم واخراجهم حتى الآن بسبب نقص المعدات والآليات، هذا بالاضافة لحوالي إحد عشر ألف مصاب لم تعد تتسع لهم مستشفيات القطاع ومراكزه الصحية، ناهيك عن أن أعمال القتل والتدمير هذه تزداد كل دقيقة. ذلك كله يستمر في سياق محاولات حكومة الاحتلال والحرب لحرف الأنظار عن الحاجة الملحة لممرات انسانية لاخلاء الجرحى وادخال المواد الطبية والانسانية ووقف العقوبات الجماعية التي شملت قطع الماء والكهرباء والوقود والغذاء، واستبدالها بما يسمى ممرات آمنة إلى مصر لتنفيذ مخطط التهجير والتطهير العرقي، ويبدو أن هذا هو الهدف الحقيقي لكل هذه الحرب، الذي يتجاوز "تصفية حماس" كما كشف عن ذلك هنغبي ذاته .
مصر والصمود الوطني يفشلان التهجير
اصطدام هذه الخطة القذرة بالموقف المصري الذي سبق ونبهت له الجامعة العربية، وهو نفس موقف القادة العرب الذين التقى بهم بلنكين، دفع حكومة الاحتلال إلى محاولة تنفيذها كأمر واقع على مراحل، بالدعوة إلى اخلاء مليون انسان من مدينة غزة وشمالها إلى وسط القطاع، الأمر الذي اعتبرته المقررة الخاصة لحقوق الانسان تطهيراً عرقياً و جريمة حرب . هذا يوضح أيضاً أن حكومة الحرب تريد تطهير القطاع من السكان تدريجياً لتتمكن من تصفية المقاومين خلال اجتياحها البري المتدحرج نحو الجنوب، والذي تعد له على مدار الساعة، مدركةً حجم الخسائر البشرية والمادية التي ستلحق بجيشها، في محاولة منها لتقليل الخسائر التي ستطيح بها، وليس حرصاً على السكان المدنيين، الذين تعتبرهم اسرائيل عدوها الرئيسي، و تسعى للتخلص منهم بالتهجير والقتل، وهذا ما يفسر قصف قوافل نقل هؤلاء النازحين، وكذلك قصف البيوت التي انتقلوا إليها وسط القطاع . الهدف الرئيسي من ذلك اغراق المدنيين كلاجئين في صحراء سيناء وتوطينهم فيها أو نقلهم إلى المنافي البعيدة لاحقاً . فاسرائيل التي حاولت اسقاط المعادلة الديمغرافية بعزل القطاع عبر الانقسام وتعزيز الانفصال، فاقت في السابع من أكتوبر على "كارثة" حقيقة وحدة الشعب الفلسطيني، أكثر مما هي كارثة الفشل السياسي بانكار حقوقه والتنكر لمجرد وجوده كشعب، أو كارثة فشلها الأمني والعسكري والاستخباراتي على تخوم غلاف غزة.
كي لا تضيع التضحيات بلا ثمن
ما ولدته هذه الحرب من كارثة انسانية ومخاطر استراتيجية، يضعنا كفلسطينيين على مفترق طرق؛ إما أن نبدد الثمن الكبير الذي يدفعه شعبنا من دماء أبنائه على مدار أكثر من خمسة وسبعين عاماً وصلت ذروتها في حرب الابادة والتصفية الجارية اليوم، وما رافقها من صمود اسطوري منذ معركة الكرامة وصمود بيروت وانتفاضاته ومقاومته الشجاعة وصولاً للحروب المتصلة على قطاع غزة، والمجازر التي ترتكب في مدن وبلدات ومخيمات الضفة، أو أن نجعل من مأساة هذه الحرب فرصة لاعادة بناء الهوية الوطنية ومؤسساتنا الجامعة التي طالما شكلت غزة وأهلها رافعتها التاريخية منذ النكبة حتى اليوم وغداً . هذا الأمر منوط بقدرة شعبنا على أن يهيل التراب على مأساة الانقسام، الذي شكل على مدار السنوات الماضية الثغرة الأخطر التي شجعت اسرائيل على المضي بمخططات التصفية، وعدم السماح لحكومة الحرب بتمرير ألاعيبها القذرة بالحديث عن تسليم غزة للسلطة بعد ابادة شعبنا فيها. فاذا كان هدف هذه الحرب الدموية تهجير أبناء شعبنا في القطاع ، فإن مخططات ضم الضفة وتصفية قضية شعبنا تتضمن أيضاً سيناريوهات تهجير أبناء شعبنا نحو الاردن، فمخططات الوطن البديل هي جوهر سياسة حكومة "نتانياهو سموتريتش بن غفير" ، وهذا ما نبه الملك عبد لله من مخاطره خلال اليومين الماضيين .
الوحدة والصمود صمام أمان النصر
دعوة مصر لمؤتمر اقليمي دولي لمواجهة مخاطر ما يجري، يستدعي أيضاً دوراً عربياً موحداً وجاداً لانهاء الانقسام واستعادة وحدة الوطن ومؤسسات شعبنا، فهي التي تقع عليها مسؤولية ليس فقط وضع حداً لمحاولات تصفية قضية شعبنا وتهجيره، بل وفتح الطريق لمقاربات مختلفة لانهاء الاحتلال والظفر بالاستقلال الوطني.
شعب فلسطين تعلم الدرس ولن يسمح بنكبة جديدة. فهل تدرك القيادات، التي ما زال بعضها يعيش في الأوهام حجم المخاطر التي تستهدف الجميع، والأهم هل يدركون واجباتهم لمواجهتها ؟! فالأولوية الوطنية العليا تكمن في التصدي لهذه المخططات، وما يستدعيه من وحدة الموقف والخطاب لوقف الحرب ونجدة شعبنا في القطاع ، وإلا فسنؤكل جميعاً كما أُكل الثور الأبيض .